تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير - (12) - إمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..
logo

تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير - (12) - إمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

 تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير - (12) - إمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير - (12) - إمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

 

قال تعالى:

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ...)  [البقرة: من الآية: (187)]  ..


انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان، قد يظن أنَّها تُنافي عبادة الصيام، ولأجل هذا الانتقال فُصلت الجملة عن الجمل السابقة ..


وذكروا لسبب نزول هذه الآية كلاماً مُضطرباً غير مُبين، فروى أبو داود، عن معاذ بن جبل رضب الله عنه: ((كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يُباشر أهله بعد ذلك، فجاء عمر يريد امرأته فقالت: إني قد نمت، فَظَنَّ أنَّها تَعْتَل فباشرها))، وروى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه: ((أنَّ قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب، يُريد طعامه، فقالت له امرأته: حتى نُسخن لك شيئاً، فنام، فجاءت امرأته فوجدته نائما، فقالت: خيبة لك، فبقي كذلك، فلمَّا انتصف النهار أغمي عليه من الجوع)) ..

 

وفي كتاب التفسير من صحيح البُخاري عن حديث البَراء بن عَازب رضي الله عنه، قال: ((لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) الآية، ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر))، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث، فقيل: كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم، أو من بعد صلاة العشاء حُكماً مشروعاً بالسُّنة ثم نُسخ، وهذا قول جمهور المفسرين، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نَسْخاً لشيء تقرر في شرعنا، وقال: هو نَسْخ لما كان في شريعة النصارى ..

 
وما شرع الصوم إلاَّ إمساكاً في النَّهار دون الليل، فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة، ولكنَّها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنَّهار، والمقصود منها إبطال شيء تَوَهَمَه بعض المسلمين، وهو أنَّ الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين؛ وقت الإفطار ووقت السحو ، وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء؛ لأنَّهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها، فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلاَّ أكلة السحور، وأنَّهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام، وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي، ظَنُّوا أنَّ النوم إِنْ حصل في غير إبانه المعتاد يكون أيضاً مانعاً من الأكل والجماع إلى وقت السحور، وإنَّ وقت السحور لا يُباح فيه إلاَّ الأكل دون الجماع؛ إِذْ كانوا يتأثمون من الإصباح في رمضان على جنابة ..

 

وقد جاء في صحيح مسلم أنَّ أبا هُريرة رضي الله عنه كان يرى ذلك، يعني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلَّ هذا قد سرى إليهم من أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد بن جرير من طريق السُّدِّي، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلَّ ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لها صيام رمضان، فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة ..

 

وذكر (ابن العربي) في (العارضة)، عن ابن القاسم، عن مالك: كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يطعم، لم يطعم من اللَّيل شيئاً، فأنزل الله (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) فأكلوا بعد ذلك، فقوله تعالى(عَلِمَ اللَّهُ) دليل على أنَّ القُرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان؛ إذ علم الله ما ضَيَّقَ به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم .. وهذا يُشير إلى أنَّ المسلمين لم يفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا نجد في روايات البخاري والنسائي أن النَّاس ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ في حديث قيس بن صرمة رضي الله عنه عند أبي داود، ولعلَّه من زيادات الراوي ..


فأمَّا أن يكون ذلك قد شُرع ثُمَّ نُسخ فلا أحسبه؛ إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أول مرة يوماً في السنة، ثُمَّ دَرجَه فشرع الصوم شهراً على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفاً على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلاً ونهاراً، فلا يُبيح الفطر إلا ساعات قليلة من الليل ..

 

_______________

* - للموضوع –صلة- بمشيئة الله تعالى ..

من تفسير " التحرير والتنوير"؛ لإمام أهل المغرب، العلاّمة محمد الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..