تفسير آيات الصيام من تفسير (روح المعاني) (8) لإمام أهل العراق، العلاَّمة شهاب الدين، السيد محمود الآلوسي (رحمه الله) ..
logo

تفسير آيات الصيام من تفسير (روح المعاني) (8) لإمام أهل العراق، العلاَّمة شهاب الدين، السيد محمود الآلوسي (رحمه الله) ..

تفسير آيات الصيام من تفسير (روح المعاني) (8) لإمام أهل العراق، العلاَّمة شهاب الدين، السيد محمود الآلوسي (رحمه الله) ..

تفسير آيات الصيام من تفسير (روح المعاني) (8) لإمام أهل العراق، العلاَّمة شهاب الدين، السيد محمود الآلوسي (رحمه الله) ..

 

قال تعالى:

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

 

 (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَأحدهما من الآخر، ويميز بينهما، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء بـ  (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) الفجر، أو (يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)؛ لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة، فيصير الحكم مُجملاً مُحتاجاً إلى البيان، وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما، قال: ((أنزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا .. إلخ، ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ، فكان رجال إذا أرادوا الصَّوم، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد: (مِنَ الْفَجْرِ)، فعلموا إنما يعني الليل والنهار)) ..

 

 فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان، بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به، وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما، إلا أنَّه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم، ويُؤيد ذلك أنَّه  صلى الله تعالى عليه وسلم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح بالبلادة، ولو كان الأمر موقوفاً على البيان لاستوى فيه الذكي والبليد ..

 

فقد أخرج سُفيان بن عُيينة، وأحمد، والبُخاري، ومُسلم، وأبو داوود، والترمذي، وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، لمَّا نزلت (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ .. إلخ) عمدت إلى عقالين أحدهما أسود، والآخر أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر إليهما، فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم،  فأخبرته بالذي صنعت؛ فقال: ((إنَّ وسادك إذا لعريض، إنَّما ذاك بياض النهار من سواد الليل)) ..  وفي رواية: ((إنك لعريض القفا)) ..

 

وقيل: إنَّ نُزول الآية كان قبل دخول رمضان - وهي مُبهمة - والبيان ضروري، إلاَّ أنَّه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة، وهو لا يضر، ولا يخفى ما فيه. وقال أبو حيان: إنَّ هذا من باب النسخ، ألا ترى أنَّ الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ، ثم صار مجازاً بالبيان، ويرده على ما فيه أنَّ النسخ يكون بكلام مستقل، ولم يعهد نسخ هكذا، وفي هذه الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب، بل على وقوعه بناء على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنة، وليس في القرآن ما يدل عليها، و (أُحِلَّ) أيضاً يدل على ذلك، إلاَّ أنه نسخ بلا بدل، وهو مختلف فيه ..

 

واسْتُدِلَّ بالآية على صحة صوم الجنب؛ لأنَّه يلزم من إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جُزء من أجزاء الليل مُتصل بالصبح، فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جُنباً، فإن لم يصح صومه لما جازت المباشرة؛ لأنَّ الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم مناف للملزوم، ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل قبله؛ لأنَّه إنِّما يفسد الصوم، لكونه مُكمل الجماع، فهو جماع واقع في الصبح، وليس بلازم للجماع كالجنابة، وخالف في ذلك بعضهم، ومنع الصحة زاعماً أنَّ الغاية مُتعلقة بما عندها، واحتج بآثار صح لدى المحدثين خلافها ..

 
واستدل بها أيضاً على جواز الأكل مثلاً لمن شَكَّ في طلوع الفجر؛ لأنَّه تعالى  أباح ما أباح مغيا بتبينه، ولا تبين مع الشك خلافاً لمالك. ومجاهد بها على عدم القضاء، والحال هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر؛ لأنَّه أكل في وقت أذن له فيه، وعن 
سعيد بن منصور مثله، وليس بالمنصور، والأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم على أنَّ أول النهار الشرعي طلوع الفجر، فلا يجوز فعل شيء من المحظورات بعده ...

 

وقد استنبط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منها حُرمة الوصال كما قيل، فقد روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية، قالت: ((أردت أن أصوم يومين مُواصلة، فمنعني بشير، وقال: إنَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه، وقال : يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى، و أتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا)) ..

 

ولا تدل الآية على أنه لا يجوز الصوم حتى يتخلل الإفطار خلافاً لزاعمه، نعم استدل بها على صحة نية رمضان في النهار، وتقرير ذلك أن قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا) إلخ، معطوف على قوله: (بَاشِرُوهُنَّ) إلى قوله سبحانه: (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ) وكلمة (ثُمَّ) للتراخي والتعقيب بمهلة، (واللام) في (الصِّيَامَ) للعهد على ما هو الأصل، فيكون مفاد (ثُمَّ أَتِمُّوا) إلخ، الأمر بإتمام الصيام المعهود؛ أي الإمساك المدلول عليه بالغاية، سواء فسر بإتيانه تاماً، أو بتصييره كذلك مُتراخياً عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر، تحقيقاً لمعنى ثم فصارت نية الصوم بعد مُضي جزء من الفجر؛ لأن قصد الفعل إنما يلزمنا حين توجه الخطاب، وتوجهه بالإتمام بعد الفجر؛ لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لانقضاء الليل لمعنى التراخي، والليل لا ينقضي إلاَّ مُتصلاً بجزء من الفجر، فتكون النية بعد مُضي جُزء الفجر الذي به انقطع الليل، وحصل فيه الإمساك المدلول عليه بالغاية ..

 

فإن قيل: لو كان كذلك وجب وجوب النية بعد المضي، أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع، وبأن إعمال الدليلين - ولو بوجه - أولى من إهمال أحدهما، فلو قلنا بوجوب النية كذلك عملاً بالآية بطل العمل بخبر: ((لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل))، ولو قلنا باشتراط النية قبله عملاً بالخبر بطل العمل بالآية، فقلنا بالجواز عملاً بهما ..

 

 فإن قيل: مقتضى الآية -على ما ذُكر- الوجوب، وخبر الواحد لا يُعارضها، أجيب: بأنها متروكة الظاهر بالإجماع، فلم تبق قاطعة، فيجوز أن يكون الخبر بياناً لها، ولبعض الأصحاب تقرير الاستدلال بوجه آخر، ولعلَّ ما ذكرناه أقل مؤنة فتدبر ..


وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت؛ لأن معنى (ثُمَّ أَتِمُّوا) صيروه تامّاً بعد الانفجار، وهو يقتضي الشروع فيه قبله، وما ذاك إلا بالنية؛ إذ لا وجوب للإمساك قبل، ولا يخفى ما فيه ..

_____________

* - للموضوع -صلة وتكملة - بمشيئة الله تعالى ..