 
               
 				   
[4]
أحوال النَّاس في استقبال رمضان
يتفاوت النَّاس في استقبال شهر رمضان بين مُدرك لقيمته وحُرمته ومكانته، وبين آخر لا يعرف له حُرمة ولا قيمة، وآخر هُو بَيْنَ بَيْنَ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء..
فبعض النَّاس -عافانا الله وإياكم- مُتفننون في إضاعة بل (قتل) أوقاتهم فيما لا يعود بأي نَفْع أو فائدة عليهم؛ بل رُّبما يعود عليهم بالضرر .. فيمر على أحدهم رمضان تلو رمضان وهُو مُقصِّر ومُقيمٌ على ما هُو عليه، لا يعتبر بمرور الأيام والليالي، ولا يشعر أنها من أجله الذي قضى الله وقدَّر، ولا يشعر بذلك إلاَّ حين ينقضي أجله، ويُقضي عليه بالموت، وقد حُرم من التعرض لنفحات الله ورحماته الذي يمتنُّ بها على عباده الصائمين؛ فكان هُو المحروم حقّاً ..
ومِثل هذا إذا جاء رمضان استقبله ببهجة مُصطنعة، وتهنئة باردة؛ لا يُلزم نفسه بطاعة، ولا يُروِّضُها بعبادة؛ فهُو في نهاره نائم، وفي ليله على المعاصي قائم، وفي آخرته نادم؛ فهو في غالب أحواله مُقيمٌ على إضاعة وقته -رأس ماله- الثمين في هذه الحياة على السَّهرات والقنوات والمهرجانات والسَّفرات، التي تفقد رُوح الإسلام، ويفقد بغشيانها، وقتل وقته الثمين بين أرجاءها احترامه لرمضان ..
ولله دُرُّ القائل: "كم يُنادى: حيَّ على الفلاح وأنت خاسر؟! .. كَمْ تُدْعى إلى الصَّلاح وأنت على الفساد مُثابر؟! ..
إذا رمضانُ أتى مُقبلاً *** فأقبل فبالخير يُسْتَقْبلُ
لعلَّك تُخطِئْهُ قابلاً *** وتأتي بعُذرٍ فَلا يُقْبلُ
"كم ممن أمَّل أن يصُم فَخانَهُ أمله، فصار قَبْلَهُ إلى ظُلمة القبر .. كم من مُستقبلٍ يوماً لا يستكمله، ومُؤمل غداً لا يُدركه .. إنَّكُم لو أبصرتُمُ الأجل ومَسيرَهُ، لأَبْغَضتُم الأمل وغُرُورَهُ". [لطائف المعارف: (ص265 – 266)] ..
وآخرون منهم يستقبلون رمضان بالتجول في الأسواق، والتَّسَكُّع في الشوارع والطُرقات، والتزاحم عند الباعة في الأَزِقَّة وأخواتها؛ لشراء ما لا طاقة لهم به من ألوان وصُنوف الطَّعام والشراب، فيُثقلون كاهلهم، ويُضيِّعون أموالهم، ويُبدِّدون ميزانيات البيوت؛ ظانين في رمضان ظنَّ السَّوْء، أنَّهُ عبءٌ عليهم، ووالله ما أنصفوا .. فلو علموا حقيقة رمضان .. وحقيقة فقه الصَّوم فيه، والدُّروس المستفادة منه ما فعلوه؛ فذرهُم وما يفترون! ..
وآخرون وهُم الصِّنْفُ الثالث؛ وهُم الذين أنار الله قلوبهم وبصائرهم بطاعته وحُسن عبادته، فعرفوا لله حقّاً في رمضان؛ ففارقوا العادة، وأقبلوا على الله بالعبادة؛ فهم بين صيام وصلاة وتلاوة للقُرآن، وذكرِ وإخبات وقيام بين يدي الرَّحمان، وصدقة وإحسان يرجون بها وجه الله الكريم، وهم في نهارهم بين صلاة وذكر وتعبد، وفي ليلهم بين قيام وخُشوع وتهجُّد؛ مُقتدين في هذا الشَّهر الفضيل بخير الأنام عليه الصلاة وأزكى السَّلام الذي كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره من الشُّهور والأيام ..
كان جبريلُ عليه السَّلام يأتي سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، فيُدارسه القُرآن في رمضان، فَيَكُون أجود النَّاس بالخير فيه؛ أجْودَ بالخير من الريح المُرسلة، وأسرعهم إلى مرضاة ربّه سبحانه وتعالى، فإذا دخل العَشر الأواخر شَمَّر عن ساعد الجدِّ واجتهد، وشدَّ مِئْزَرَهُ، وأَيْقَظَ أهله، وأَحْيَا ليله، واعتكف لله عَشْرَهُ، وقام لله حتَّى تَوّرَّمت قدماه، وقد غفر الله له -بأبي هُو وأُمِّي- ما تقدَّم من ذَنْبِهِ ومَا تأخَّر؛ ولمَّا أشفقت عليه زوجُه الحَنُون الطَّيِّبَة الطَّاهرة؛ أمُّنَا – أُم المؤمنين- عائشة الصدِّيقة بنت الصِّدِّيق رضي الله عنها وعن أبيها؛ قال لها: ((أَفَلا أكونُ عبداً شكُوراً)) .. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على سيِّدنا الحبيب مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم .. أفلا يحقُّ أن يكُون هذا النَّبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- قُدْوَتُنَا وقائدنا إلى الخير دُون غيره كائناً من كان؟!؛ (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).[سورة الأحزاب: (21)] ..