منهج دراسة الآيات الكونية في القرآن الكريم – (1) – بقلم: أ. د كارم السيد غنيم، الأستاذ بكلية العلوم – جامعة الأزهر .. أمين عام جمعية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
logo

منهج دراسة الآيات الكونية في القرآن الكريم – (1) – بقلم: أ. د كارم السيد غنيم، الأستاذ بكلية العلوم – جامعة الأزهر .. أمين عام جمعية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة

منهج دراسة الآيات الكونية في القرآن الكريم – (1) – بقلم: أ. د كارم السيد غنيم، الأستاذ بكلية العلوم – جامعة الأزهر .. أمين عام جمعية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة

من المؤكد أن كافة المؤيدين يتفقون على ضرورة وجود المنهج والقواعد والضوابط التي بها يتعاملون مع آيات "القرآن الكريم" في دراسة الإشارات العلمية وفي "التفسير العلمي"، غير أنهم متفاوتون في الالتزام بشروط الدراسة، ولكنهم جميعاً يحرصون على إجلال القرآن وتعظيمه واحترامه واحترام مقاصده ومعانيه ..

 

المنهج والضوابط والقواعد

(1) -  تفسير القرآن بالقرآن:

من المعلوم لدى العلماء أن "القرآن الكريم" يُفسر بعضه بعضاً، فما أُجمل في موضع فُصل في موضع آخر، وبالتالي يجب ألا تتعارض المعالجة العلمية لنص قرآني مع مضمون نص قرآني آخر، وبهذا تكون المطابقة بين الحقيقة الكونية وجملة ما يتصل بها أو بموضوعها من الآيات القرآنية، لا بينها وبين آية واحدة قد يخفى معناها على الناظر ولا يتبين إلا في ضوء آية أو آيات أخرى في نفس موضوعها.

 

(2) - الرجوع إلى المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم:

وذلك بالاستعانة بالأحاديث النبوية في "تفسير الآيات الكونية"، إذا وُجدت، والأخذ بصحيح المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه توسيع لمدلولات الآيات القرآنية.

 

(3) -  الاستئناس بالتفسير:

على القائم بمعالجة الآيات القرآنية قبل أن يُقدم عليها أن يرجع إلى كتب التفسير مُتجنباً الدَّخيل من الإسرائيليات والمدسوسات والخرافات التي قد توجد في بعض التفاسير، وعند النظر في إشارة علمية قُرآنية يجري تفسير وفهم النص القرآني بالرجوع إلى التفاسير المعروفة، واختيار أقرب الأقوال إلى الحقيقة العلمية موضوع المطابقة مع الإشارة العلمية، فمثلاً إذا كان البحث يدور حول "المياه" الملتهبة بقاع المحيطات والتفسير يتناول النص القرآني: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) وهناك من يُفسر (الْمَسْجُورِ) بمعنى (الممتلئ)، ومن يُفسر الكلمة بمعنى (الملتهب) أو (المحترق)، والأفضل الاعتماد على التفسير الذي يختار المعنى الثاني.

 

(4) - الإلمام بعلوم القرآن المساعدة:

عند التعامل مع "الآيات القرآنية الكونية"، سواء في مجال دراسة وجه الإعجاز العلمي، أم في مجال "التفسير العلمي" فلابد من الإلمام بالمعلومة الكونية المستخدمة في الدراسة، كما يجب الإلمام بالقدر المناسب من قواعد اللغة العربية التي تُعينه على فهم النَّص القرآني فهماً صحيحاً وعميقاً، كما يجب الإلمام بالقدر الضروري من "علوم القرآن" الذي يحتاجها الباحث في دراسته. وذلك يتحقق على أحسن وجه بأن يعمل العلماء المتخصصون في العلوم الكونية والمتخصصون في علوم القرآن واللغة العربية كفريق عمل مُتعاون.

 

(5) -  الالتزام شروط التأويل:

ذكرت الحقائق العلمية في مختلف فروع العلم في "القرآن الكريم" على وجه الحقيقة تارة وعلى وجه المجاز تارة أخرى، ولذلك يجب تفسير اللفظ في "النَّص القرآني" على ظاهره ما لم يكن في النص قرينة تدل على المجاز، أو كان المعنى يستعصي فهمه على ظاهر اللفظ ومخالفة هذه القاعدة يؤدي إلى الوقوع في كثير من الأخطاء في الفهم والتفسير.

 

(6) - التثبت من حقائق المعطيات العلمية:

يجب على القائم بالمعالجة العلمية "للآيات الكونية في القرآن الكريم"، ألا يأخذ في دراسته إلا بالحقائق العلمية الثابتة، ويبتعد عن النظريات وما دونها، كالفرضيات والاحتمالات والظنون والتخمينات، وإذا كانت النظريات قد استقرت ولكنها لم تخضع للتجريب – وكثيراً ما يكون ذلك في علوم الفلك والجيولوجيا – فلا بأس من استخدامها مع التنبه إليها.

 

(7) - مُراعاة معاني الألفاظ وتعدد المدلولات:

ينبغي أن تخضع "المعالجة العلمية للآيات القرآنية" للمعنى اللُّغوي السليم للألفاظ، مع التنبيه إلى تعدد المدلولات للفظ الواحد، ولهذا فإذا أخذ أحد الأسلاف من العلماء في تفسيره لكلمات القرآن الكريم بمعنى مُعين، فلا ضير على من يقوم بدراسة الإعجاز العلمي أن يأخذ بمعنى آخر لنفس اللفظ، مادام أنه وارد بالمعاجم وله وجه في اللغة، وذلك بقصد تعميق اللفظ أو للاقتراب من المفهوم العلمي "للإشارة الكونية القرآنية" ، كما يُراعى أن تكون لغويات الآية محل الدراسة وفقاً لما جاء بالمعاجم بحسب المعاني الأصلية للكلمات، وليس وفقاً لما طرأ على معاني الألفاظ من تغيير عند الناس بمرور الزمن .. وبعبارة أخرى يجب أن يُؤخذ معنى "اللفظة القرآنية" من معانيها الأصلية.

 

(8) - مُراعاة تعدد مواضع الإشارات العلمية:

قد تحوي آية قرآنية واحدة حقائق كونية عديدة، وقد تأتي الحقيقة أو الظاهرة الكونية الواحدة في "آيات قرآنية" مُتفرقة، ولهذا يجب عند دراسة "الإشارات القرآنية" المتعلقة بتلك الظاهرة أو الحقيقة الكونية أن ينتبه الباحث إلى ذلك، وعليه أن يملك أحد مسلكين أو كلاهما ليخرج باستنتاجات شاملة ومُتكاملة، وهما:

أ - تحليل الآية الجامعة إلى الحقائق (أو الظواهر) الكونية الموجودة بها، ثم تناول كلّ على حدة مع تقصي، وبحث مواضع ذكرها في آيات أخرى من القرآن ومُناسبة إيراد كلّ منها في موضعه، مع الربط بين الكلام في الحقيقة أو (الظاهرة) الكونية الواحدة وبين السياق العام للآية.

ب ‌- عرض كافة الآيات الواردة في حقيقة (أو ظاهرة) كونية واحدة وتدبرها، لإبراز أوجه الإعجاز الموجودة بها؛ ويعني هذا أنه من الضروري عدم الاقتصار في فهم الآية الكونية – في الموضوع الواحد – على آية واحدة قد يخفي معناها على الباحث، ولا يتبين إلاَّ في ضوء بقية الآيات الأخرى الواردة بها الحقيقة (أو الظاهرة) الكونية ذاتها، وهي آيات مُتفرقة في سور القرآن.

 

(9) -  التوفيق بين القطعي والظني:

هناك نصوص قُرآنية قطعية الدلالة، وهناك حقائق علمية كونية قطعية، كما أن هناك نصوص قرآنية ظنّية في دلالتها، وكذلك ففي العلم نظريات ظنية في ثبوتها، ولا يمكن أن يقع صدام بين قطعي في كلا الجانبين، فإن وقع في الظاهر فلابد أن يكون هناك خلل في اعتبار قطعية أحدهما.

أ‌ - وإذا وقع توافق بين دلالة قطعية للنص القرآني وبين نظرية علمية، كان النص القرآني دليلاً على صحة تلك النظرية.

ب - وإذا كان النص القرآني ظنياً والحقيقة العلمية قطعية يؤول النص بها.

جـ - وإذا كان النص القرآني قطعياً واصطدم في ظاهره بحقيقة علمية، قلنا أن نؤول النص القرآني، ولنا أن نعتبر الحقيقة العلمية ناقصة الاكتشاف، أي عُرف بعضها ويتبقى جزء منها غير معروف؛ ومثال ذلك (القلب)، فقد أمكن التعامل معه بشكل مادي واضح، والقرآن والسُّنّة يتحدثان عنه بشكل معنوي، وهناك يكون الموقف كما قلنا فإما نُؤول النص القرآني وتُصبح كلمة (قلب) بمعنى (عقل)، وإما أن نعتبر كل ما عرف من القلب حتى الآن يتناول فقط جانبه العضوي، ومازال جانبه المعنوي مجهولاً، بالرغم من الإحاطة العلمية الكاملة به واستقراره .. كحقيقة طبية ذات طبيعة مادية.

 

وبعد .. فهذه جملة من الضوابط والقواعد التي يجب الالتزام بها عند "المعالجة العلمية للآيات القرآنية"، والبحث في الإعجاز العلمي، وقد يفتح الله على مُتخصص في العلوم الكونية فتنكشف له حقيقة كونية من "الإشارة العلمية القرآنية" دون أن يتبع الضوابط والقواعد، فعليه حينئذ أن يقبلها ولا يرفضها ثم بعد ذلك يخضعها لمنهج البحث، حتى يتأكد من سلامة الاستنتاج ومطابقة الفهم للضوابط والقواعد ..

وقد تأتي خاطرة علمية في ضوء "آية قرآنية" لقارئ للقرآن، فإذا جاءت فعليه أن لا يكتمها، بل عليه أن ينقلها إلى أهل الذكر من علماء الكونيات وعلماء الدين، فلعلَّ فيما خطر له منها يفيد في مجال "الإعجاز العلمي للقرآن الكريم".

 

خصائص الأسلوب القرآني

أسلوب "القرآن الكريم" – وعباراته الدقيقة – بالغ الأهمية في إدراك مواطن الإعجاز العلمي والتعامل العلمي مع "الإشارات الكونية بالقرآن الكريم" ولا نتجاوز الحقيقة حين نقول: إن معرفة الإعجاز العلمي تقوم أساساً على الأسلوب القرآني، ونستطيع أن نُقرر بأن الإعجاز العلمي يُعرف من خلال الإعجاز البلاغي، ولهذا فمن الضروري أن نتعرف على بعض خصائص الأسلوب القرآني التي بها تتحقق معرفة الإعجاز العلمي.

 

الخاصية الأولى: مُراعاة العام والخاص:

القرآن الكريم إذ سمعه العامة فهموا منه على قدر استعدادهم – لغة وفكراً ومعرفة وثقافة – ونالوا منه ما يُرضي عقولهم ويريح نفوسهم .. والخاصة – عُلماء ومثقفون ومتخصصون - إذا سمعوا نفس الآيات فهموا منه أكثر، والمتخصصون في العلوم الكونية يُدركون المعطيات العلمية الموجودة "بآيات القرآن الكونية"، فكلمة (الأرض) إذا سمعها العامة فهموا منها انبساط الأرض، والمتخصصون يفهموا منها كُروية الأرض.

 

الخاصية الثانية: السياق القرآني:

سياق الآيات والترابط الذي يُوجد فيما بينها – أو الارتباط بما قبلها وبما بعدها – يكون مُرشداً على مواطن الإعجاز العلمي، وكذلك ترتيب مقاطع الآية وتسلسل موضوعها؛ انظر مثلاً إلى قول الله تعالى في [سورة المرسلات: 27]: (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا)، وتأمل الحكمة في ترتيب سُقيا الناس الماء بعد الجبال الشوامخ، وستصل إلى السِّرّ في الترتيب إذا علمت أنَّ السحاب إذا لامس أعالي الجبال الشامخة ذات السطوح الباردة تكاثف بالتجمع وبالتبريد، وبهذا تكون الأنهار التي تمد الناس بالماء العذب أصلها من مياه البحار المالحة التي هي مصدر السحاب، وجاءت كلمة (فُراتاً) للتنبيه إلى نعمة الله سبحانه وتعالى، كما أنه بمفهوم المخالفة، أي (الماء المالح) تكمن الإشارة العلمية إلى أنَّ مصدر السحاب، هو مياه البحار المالحة.

 

وقد يكون السياق – أي الارتباط بين الآيات في الموضوع -  طويلاً، وقد يكون قصيراً، حيث تنتقل الآيات سريعاً من موضوع إلى موضوع، وعندما يحدث ذلك بين آيات أحداث الدنيا وآيات أحداث الآخرة، وتتداخل الآيات في بعضها البعض، يلزم اللجوء إلى القرائن التي تُفرق بينهما.

وأوضح مثال لذلك هو: آيات [سورة النمل: 83 – 88]، وهي قول الله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ * أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)، فإنك تجد فيها ذلك التداخل، مما أوقع بعض المفسرين في سوء الفهم، وذلك بصرف آيات أحداث الدنيا إلى أحداث الآخرة، وحدث ذلك في [الآية رقم: 88]، وهي قول الله سبحانه وتعالى:( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)، فقالوا: بأن سير الجبال يحدث في الآخرة، وصرفوا الآية إلى يوم القيامة، ولكن بعضهم نظر إلى قوله تعالى في الآية الكريمة: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فاعتبروا ذلك قرينة على أن الآية تذكر أموراً واقعة في الدنيا؛ لأنها موصوفة بالاتفاق الذي يتناسب مع الخلق والوجود والإبداع، وهذه القرينة لا تصلح لأحداث يوم القيامة التي تتصف بالتدمير والتخريب والفناء.

 

الخاصية الثالثة: جمعه بين الإجمال والبيان:

إذا قرأت "النَّص القرآني" تراه واضح المعاني، فإذا أمعنت النظر فيه لاحت منه معاني جديدة، ولهذا فإن الآيات القرآنية التي تتناول الكونيات نزلت محملة بفيض من الأسرار التي تنكشف تباعاً بحسب ما يظهر من نتائج، وبحسب ما ينتج عنها من اكتشافات ومثال ذلك قول الله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [سورة النبأ: 6 - 7]، فعند مُطابقة المعنى الوارد في التفاسير تراه مُقتضباً ولا يخرج عن المعنى اللغوي، وعند قراءة العلماء المتخصصون لهاتين الآيتين وتدبرهم في الكلمتين: (مِهَادًا) و (أَوْتَادًا) يستخرجون منهما فيضاً من المعارف الكونية، ويجدون فيهما الكثير من الحقائق العلمية.

 

الخاصية الرابعة: دقة البيان القرآني في التعبير العلمي:

عند قراءة "النَّص القرآني" على الباحثين عن الإشارات العلمية أن ينتبهوا إلى دقة البيان القرآني وإلى اللطائف اللُّغوية ولو على مستوى الحرف، انظر إلى قول الله سبحانه وتعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) [سورة الحجر: 22]، فلقد ثبت علمياً أنَّ الرّيَّاح تقوم بتلقيح السّحاب بما يجعلها تمطر، والمفتاح البياني لفهم هذه الحقيقة الكونية هو (فاء السببية)، وهكذا يكون تلمُّس الإشارات العلمية في كل جُزء من "النَّص القرآني" ولو على مستوى الحرف ..

وانظر إلى قول الله تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) [سورة الحجر: 119] فلقد جاءت فيه كلمة (في) بدلاً من (على)، وفي ذلك إشارة علمية إلى أن الجبال لم تُطرح على سطح الأرض، طرحاً بل غُرست في الأرض، وهذا ما يطابق ما عليه الجبال من تعمق في باطن الأرض، وقد يكون جزء الجبل المنغرس في باطن الأرض مُساوياً للجزء الظاهر على سطح الأرض أو أطول، وكانت (في) المفتاح البياني للفهم العلمي لهذه الآية ..

 

 الخاصيّة الخامسة: التشبيه البليغ والنظرة التوافقية:

جاء التشبيه البليغ في "آيات القرآن الكونية" ليقود العلماء إلى التلمس العلمي لهذه الآيات، وإدراك ما بها من إشارات علمية، وذلك من خلال مُطابقة المجهول بالمعلوم، كما في قوله تعالى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) والأوتاد معلومة صفة وأداءً، وعلى العلماء أن يدرسوا الجبال على ضوء ذلك التشبيه، وقد تحقق ذلك وتوصل العلماء إلى معلومات كثيرة في هذا الموضوع.

ويُلاحظ أن التشبيه القرآني من باب تشبيه الأعلى بالأدنى، وهو ما يعرف (بقلب التشبيه) فهو ليس من باب التهويل الذي يكون في لغة الناس، ولكنَّه من باب الدعوة إلى النظرة التوافقية، والتوجيه إلى البحث في أوجه الشَّبه.

 

الخاصيَّة السادسة: دقة اختيار المصادر والاشتقاقات:

لدقة اختيار المصادر بآيات "القرآن الكريم" فائدة في بحث ودراسة الآيات ذات الإشارات العلمية، انظر مثلاً إلى: (بِناء) و (بُنيان) للفعل (بنى) و (بناء)، فلم يرد بالآية كيفية تعلقها بالسماء، كما في قوله سبحانه وتعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) [سورة غافر: 64] أما (بُنيان) فلم يَرد إلا مُتعلقاً بالأرض، كما في قوله سبحانه وتعالى: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ) [سورة النحل: 26]، واختصاص السماء في كتاب الله بأحد الاسمين (بناء)، واختصاص الأرض بالاسم الآخر (بُنيان) – على تعدد المواطن في سور القرآن – أمر له دلالته، وهو إشارة علمية دقيقة إلى أن هناك فرق بين طبيعة بناية السماء وطبيعية البنيان في الأرض.

 

وبعد: فهذه بعض جوانب "البيان القرآني" التي تُعين على معرفة الإعجاز العلمي والبحث عن الإشارات و "الحقائق العلمية الواردة بالقرآن الكريم" .. ونحن نُطالب علماء اللغة بالمزيد من الاهتمام في الكشف عنها ودراستها بالمفهوم العلمي، والاشتراك مع المتخصصين في العلوم الكونية في البحث عمَّا بها من إشارات علمية، ليتولوا جميعاً بيان الإعجاز العلمي والتفسير العلمي للقرآن الكريم ..

 

 

* - للدراسة –صلة- بمشيئة الله تعالى ..

* - بقلم الأستاذ الدكتور كارم السيد غنيم ، الأستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر ، وأمين عام جمعية الإعجاز العلمي في القُرآن الكريم ..