تفاصيل المقال
وقفات إيمانية مع آيات الصيام في القُرآن الكريم –(3)- للعلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) ..
انظروا إلى دقة الأداء القرآني في قوله: (وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .. إن العبادة التي نفهم أن فيها مشقة هي الصيام وبعد ذلك تكبرون الله؛ لأن الحق سبحانه عالم أن عبده حين ينصاع لحكم أراده الله وفيه مشقه عليه مثل الصوم ويتحمله ..
وعندما يشعر بأنه قد انتهى منه إنه سبحانه عالم بأن العبد سيجد في نفسه إشراقاً يستحق أن يشكر الله الذي كلفه بالصوم ووفقه إلى أدائه؛ لأن معنى (وَلِتُكَبِّرُواْ الله) يعني أن تقول: «الله أكبر» وأن تشكره على العبادة التي كنت تعتقد أنها تُضنيك، لكنك وجدت فيها تجليات وإشراقات، فتقول: الله أكبر من كل ذلك، الله أكبر؛ لأنه حين يمنعني يعطيني، وسبحانه يعطي حتى في المنع؛ فأنت تأخذ مقومات حياة، ويعطيك في رمضان ما هو أكثر من مقومات الحياة والإشراقات التي تتجلى لك، وتذوق حلاوة التكليف وإن كان قد فوت عليك الاستمتاع بنعمة فإنه أعطاك نعمة أكثر منه ..
وبعد ذلك فالنسق القرآني ليس نسقاً من صنع البشر، فنحن نجد أن نسق البشر يقسم الكتاب أبواباً وفصولاً ومواد كلها مع بعضها، ويُفصل كل باب بفصوله ومواده، وبعد ذلك ينتقل لباب آخر، لكن الله لا يريد الدين أبواباً، وإنما يريد الدين وَحدة متكاتفة في بناء ذلك الإنسان، فيأتي بعد قوله: (وَلِتُكَبِّرُواْ الله) ب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ومعنى ذلك أنكم سترون ما يجعلكم تنطقون ب «الله أكبر» ؛ لأن الله أسدى إليكم جميلاً، وساعة يوجد الصفاء بين «العابد» وهو الإنسان و «المعبود» وهو الرب، ويثق العابد بأن المعبود لم يكلفه إلا بما يعود عليه بالخير، هنا يحسن العبد ظنه بربه، فيلجأ إليه في كل شيء، ويسأله عن كل شيء، ولذلك جاء هنا قول الحق: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ...) ..
ومادمت قد ذقت حلاوة ما أعطاك الحق من إشراقات صفائية في الصيام فأنت ستتجه إلى شكره سبحانه، وهذا يناسب أن يرد عليك الحق فيقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ونلحظ أن «إذا» جاءت، ولم تأت «إن» فالحق يؤكد لك أنك بعدما ترى هذه الحلاوة ستشكر الله؛ لأنه سبحانه يقول في الحديث القدسي: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) ..
فما دام سبحانه سيجب الدعوة، وأنت قد تكون من العامة لا إمامة لك، وكذلك لست مظلوماً، إذن تبقى دعوة الصائم. وعندما تقرأ في كتاب الله كلمة «سأل» ستجد أن مادة السؤال بالنسبة للقرآن وردت وفي جوابها «قل» . (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ) [سورة البقرة: 219]
وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو) [سورة البقرة: 219] ..
وقوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ) [سورة البقرة: 215] ..
وكل (يَسْأَلُونَكَ) يأتي في جوابها (قُلْ) إلا آية واحدة جاءت فيها «فقل» بالفاء، وهي قول الحق: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً) [سورة طه: 105] ..
انظر إلى الدقة الأدائية: الأولى «قل» ، وهذه «فقل»، فكأن (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ) يؤكد أن السؤال قد وقع بالفعل، ولكن قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ) ، فالسؤال هذا ستتعرض له، فكأن الله أجاب عن أسئلة وقعت بالفعل فقال: «قل» ، والسؤال الذي سيأتي من بعد ذلك جاء، وجاءت إجابته ب «فقل» أي أعطاه جواباً مُسبقاً، إذن ففيه فرق بين جواب عن سؤال حدث، وبين جواب عن سؤال سوف يحدث، ليدلك على أن أحداً لن يُفاجئ الله بسؤال، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً) ..
لكن نحن الآن أمام آية جاء فيها سؤال، وكانت الإجابة مُباشرة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) .. فلم يقل: فقل: إني قريب؛ لأن قوله: «قل» هو عملية تُطيل القرب، ويريد الله أن يجعل القرب في الجواب عن السؤال بدون وساطة (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) .. لقد جعل الله الجواب منه لعباده مباشرة، وإن كان الذي سيبلغ الجواب هو رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهذه لها قصة: ((لقد سألوا رسول الله: أقريب ربك فنناجيه أم بعيد فنناديه؟)) .. لأنَّ عادة البعيد أن يُنادى، أما القريب فيناجى، ولكي يبين لهم القرب، حذف كلمة «قل»، فجاء قول الحق: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) وما فائدة ذلك القرب؟ إن الحق يقول: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ) ..
ولكن ما الشروط اللازمة لذلك؟ .. لقد قال الحق: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي) ونعرف أن فيه فرقاً بين «عبيد» و «عباد»، صحيح أن مفرد كل منهما «عبد»، لكن هناك «عبيد» و «عباد»، وكل من في الأرض عبيد الله، ولكن ليس كل من في الأرض عباداً لله، لماذا؟ .. لأن العبيد هم الذين يُقهرون في الوجود كغيرهم بأشياء، وهناك من يختارون التمرد على الحق، لقد أخذوا اختيارهم تمرداً، لكن العباد هم الذين اختاروا الانقياد لله في كل الأمور ..
إنهم مُنقادون مع الجميع في أنَّ واحداً لا يتحكم متى يولد، ولا متى يموت، ولا كيف يوجد، لكن العباد يمتازون بأن الأمر الذي جعل الله لهم فيه اختياراً قالوا: صحيح يا رب أنت جعلت لنا الاختيار، وقد اخترنا منهجك، ولم نترك هوانا ليحكم فينا، أنت قلت سبحانك: «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ونحن قبلنا التكليف منك يا رب ..
ولا يقول لك ربك: «افعل» إلا إذا كنت صالحاً للفعل ولعدم الفعل. ولا يقول لك: «لا تفعل» إلا إذا كنت صالحاً لهذه ولهذه ..
إذن فالعباد هم الذين أخذوا منطقة الاختيار، وسلموها لمن خلق فيهم الاختيار، وقالوا لله: وإن كنت مختاراً إلا أنني أمنتك على نفسي .. إن العباد هم الذين ردوا أمر الاختيار إلى من وهب الاختيار ويصفهم الحق بقوله:
(وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) [سورة الفرقان: 63 – 64]، هؤلاء هم عباد الرحمن، ولذلك يقول الحق للشيطان في شأنهم: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [سورة الحجر: 42]، إذن فللشيطان سلطان على مطلق عبيد؛ لأنه يدخل عليهم من باب الاختيار ولم تأت كلمة (عِبَادِي) لغير هؤلاء إلا حين تقوم الساعة، ويحاسب الحق الذين أضلوا العباد فيقول: (أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي) [سورة الفرقان: 17]، ساعة تقوم الساعة لا يوجد الاختيار ويصير الكل عباداً؛ حتى الكفرة لم يعد لهم اختيار ..
________________
* - للموضوع –صلة- بمشيئة الله تعالى ..
* - بقلم: فضيلة العلاَّمة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) ..
مقالات ذات صلة
-
مُبارك عليكم العيد .. وتقبَّل اللهُ منَّا ومنكُم صالحَ الأعمال ..
مُبارك عليكم العيد .. تقبَّل الله منَّا ومنكم صالح الأعمال .. وجعله الله عيد خير وبركة وسلام وأمن وأمان لأمَّة…
السبت 10 ذو الحجة 1443 هـ 09-07-2022 م -
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (4) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. في (سُوريا) .. وما أدراكم ما (سُوريا) .. قلب بلاد الشام الجميلة…
الثلاثاء 9 شوال 1443 هـ 10-05-2022 م -
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (3) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. ونحن نرى ونُشاهد ما يحدثُ لإخواننا المسلمين في (تُركستان الشرقية) بـ(الصِّين) الشُّيوعية…
الاثنين 8 شوال 1443 هـ 09-05-2022 م





