تفاصيل المقال
 
                تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير) –(15)- لإمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..
تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير) –(15)- لإمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..
وحديث سهل رضي الله عنه، لا شُبهة في صِحَّة سنده، إلاَّ أنَّه يُحتمل أن يكون قوله فيه: ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ)، وقوله: فأنزل الله بعد ذلك (مِنَ الْفَجْرِ) مرويّاً بالمعنى، فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة؛ لأنَّه لم يقع في الصحيحين إلا من رواية سعيد بن أبي مريم، عن أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، فقال الراوي: فأنزل بعد، أو بعد ذلك (مِنَ الْفَجْرِ)، وكان الأوضح أنَّ يقول: فأنزل الله بعد (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ... إلى قوله: مِنَ الْفَجْرِ) ..
 
وأيَّاماً كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان؛ لأنَّ معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب، فالتعبير به من قَبِيل الظَّاهر لا من قَبيل المجمل، وعدم فهم بعضهم المراد منه لا يقدح في ظُهور الظَّاهر، فالذين اشتبه عليهم معنى (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) و (الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)، فهموا أشهر معاني (الْخَيْطُ)، وظَنُّوا أنَّ قوله: (مِنَ الْفَجْرِ)، متعلق بفعل (يَتَبَيَّنَ) على أن تكون (مِنَ) تعليلية؛ أي: يكون تبينه بسبب ضوء الفجر، فَصَنَعُوا ما صنعوا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه: ((إن وسادك لعريض، أو إنك لعريض القفا))؛ كناية عن قلة الفطنة، وهي كناية مُوجهة من جوامع كلمه عليه الصَّلاة والسلام ..
وقوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ)، عطف على قوله: (بَاشِرُوهُنَّ) لقصد أن يكون المعتكف صالحاً، وأجمعوا على أنَّه لا يكون إلاَّ في المسجد لهاته الآية، واختلفوا في صفة المسجد، فقيل: لا بُّد من المسجد الجامع ، وقيل مُطلق مسجد، وهو التحقيق، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله، وأحكامه في كُتب الفقه، وليست من غرض هذا المفسر ..
وقوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، تذييل بالتحذير من مُخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام ..
فالإشارة إلى ما تقدَّم، والإخبار عنها بالحدود عين أنَّ المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق، وهو في قوله: (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ)، وقوله: (إِلَى اللَّيْلِ) و (وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ) من كُلِّ ما فيه تحديد يفضي تجاوزه إلى معصية، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل: (أُحِلَّ لَكُمْ)، ومثل: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) ..
والحُدود والحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوزها المرء دخل في شيء آخر، وشبهت الأحكام (بالحدود)؛ لأنَّ تجاوزها يخرج من حِلٍّ إلى مَنْع، وفي الحديث: ((وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا))، وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا) [سورة النساء: (229)] ..
وقوله: (فَلَا تَقْرَبُوهَا)، نهى عن مُقاربتها الموقعة في الخروج منها على طريق الكناية؛ لأنَّ القُرب من (الحد) يستلزم قصد الخروج غالبا، كما قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة الإسراء: 152]، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا)، كما سيأتي هُنالك، وفي معنى الآية حديث: ((من حام حول الحمى يُوشك أن يقع فيه)) ..
  
والقول في: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ)، تقدم نظيره في قوله: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [سورة البقرة: 143]، أي: كما بَيَّنَ أحكام الصيام يُبَيِّنُ آياته للناس، أي: جميع آياته لجميع الناس، والمقصد أنَّ هذا شأن الله في إيضاح أحكامه، لئلا يلتبس شيء منها على الناس ..
وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، أي: إرادة لاتقائهم الوقوع في المخالفة؛ لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال، أو لعلَّهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها، فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية، إذ لو لم يُبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها، وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير مؤاخذين بإثم التقصير؛ إلا أنَّهم لا يبلغون صفة التقوى؛ أي: كمال مُصادفة مُراد الله تعالى، فَلَعَلَّ يَتَّقُون على هذا مُنزَّل منزلة اللازم لا يُقدر له مفعول، مثل: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) [سورة الزُّمَر: 9]، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة ..
_______________
* - تم بحمد الله وتوفيقه تفسير آيات الصيام من تفسير " التحرير والتنوير"؛ لإمام أهل المغرب، العلاّمة محمد الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) .. هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
مقالات ذات صلة
- 
                      مُبارك عليكم العيد .. وتقبَّل اللهُ منَّا ومنكُم صالحَ الأعمال ..مُبارك عليكم العيد .. تقبَّل الله منَّا ومنكم صالح الأعمال .. وجعله الله عيد خير وبركة وسلام وأمن وأمان لأمَّة… السبت 10 ذو الحجة 1443 هـ 09-07-2022 م
- 
                      عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (4) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. في (سُوريا) .. وما أدراكم ما (سُوريا) .. قلب بلاد الشام الجميلة… الثلاثاء 9 شوال 1443 هـ 10-05-2022 م
- 
                      عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (3) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. ونحن نرى ونُشاهد ما يحدثُ لإخواننا المسلمين في (تُركستان الشرقية) بـ(الصِّين) الشُّيوعية… الاثنين 8 شوال 1443 هـ 09-05-2022 م





