تفاصيل المقال

تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير) – (5) - لإمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير) – (5) - لإمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

 

قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) عطف على قوله: (عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، والمعطوف بعض المعطوف عليه، فهو في المعنى كبدل البعض؛ أي: وكُتب على الذين يُطيقونه فدية؛ فإنَّ الذين يُطيقونه بعض المخاطبين بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) ..


والمُطيق هو الذي أطاق الفعل؛ أي: كان في طوقه أن يفعله، والطَّاقة أقرب درجات القُدرة إلى مرتبة العجز؛ ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة: هذا ما لا يُطاق، وفَسَّرها الفراء بالجَهْد - بفتح الجيم - وهو المشقة، وفي بعض روايات صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما،  قرأ: (وعَلى الذَّين يُطَوِّقُونَه فَلاَ يُطِيقُونَه)، وهي تفسير فيما أحسب، وقد صدر منه نظائر من هذه القراءة، وقيل: الطَّاقَة القُدرة مُطْلقاً..


فعلى تفسير الإطاقة بالجَهْد؛ فالآية مُراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصَّوم في الإفطار والفدية ..  وقد سمُّوا من هؤلاء الشيخ الَهرِم والمرأة المرضع والحامل، فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم يفطرونه، وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك والحسن البصري وإبراهيم النخعي، وهو مذهب مالك والشافعي ، ثُمَّ من استطاع منهم القضاء، قضى ومن لم يستطعه لم يقض مثل الهرم، ووافق أبو حنيفة في الفطر؛ إلاَّ أنه لم ير الفدية إلا على الهرم؛ لأنَّه لا يقضي بخلاف الحامل والمرضع، ومرجع الاختلاف إلى أن قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) هل هي لأجل الفطر أم لأجل سقوط القضاء؟، والآية تحتملهما إلا أنها في الأول أظهر، ويؤيد ذلك فعل السلف ، فقد كان أنس بن مَالك رضي الله عنه حين هرم وبلغ عَشْراً بعد المائة، يفطر ويطعم لكل يوم مُسكيناً خبزاً ولحماً  ..


وعلى تفسير الطَّاقة بالقُدرة؛ فالآية تدل على أنَّ الذي يقدر على الصوم له أن يُعوضه بالإطعام، ولمَّا كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع، قالوا: في حمل الآية عليه: إنَّها حينئذ تضمنت حُكماً كان فيه توسعة ورخصة، ثم انعقد الإجماع على نَسْخِه، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فرض في أول الإسلام لمَّا شَقَّ عليهم الصوم، ثُمَّ نُسخ، بقوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، ونقل ذلك عن ابن عباس، وفي البخاري عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهم نَسَخَتْهَا  آية شهر رمضان، ثم أخرج عن ابن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: ((نزل رمضان، فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً، ترك الصَّوم من يُطيقه، ورخص لهم في ذلك، فَنَسَخَتْها (وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ) ..

 

 ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين، وهو الأقرب من عادة الشَّارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير مُعتادهم، كما تَدَرَّج في تشريع منع الخمر، ونلحق بالهرم والمرضع والحامل كل من تلحقه مشقة، أو توقع ضر مثلهم، وذلك يختلف باختلاف الأمزجة، واختلاف أزمان الصَّوم من اعتدال أو شدَّة برد أو حر، وباختلاف أعمال الصَّائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع؛ كالصائغ والحداد والحمامي وخدمة الأرض، وسير البريد وحمل الأمتعة وتعبيد الطرقات والظئر ..

 

 وقد فُسرت الفدية بالإطعام، إمَّا بإضافة المبين إلى بيانه، كما قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو جعفر: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، بإضافة فدية إلى طعام، وقرأه الباقون بتنوين (فدية) وإبدال (طعام) من (فدية) .. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: (مساكين) بصيغة الجمع - جمع مسكين -، وقرأه الباقون بصيغة المفرد، والإجماع على أنّ الواجب إطعام مسكين، فقراءة الجمع مبنية على اعتبار جمع الذين يطيقونه من مقابلة الجمع بالجمع، مثل: ركب الناس دوابهم، وقراءة الإفراد اعتبار بالواجب على آحاد المفطرين  .. والإطعام هو ما يشبع عادة من الطعام المتغذى به في البلد، وقَدَّرَه فقهاء المدينة مُداً بِمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم من بُر أو شعير أو تمر ..

 

(فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚوَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ) تفريع على قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) إلخ، والتطوع : السَّعي في أنَّ يكون طائعاً غير مكره؛ أي: طاع طوعاً من تلقاء نفسه. والخير مصدر (خار) إذا حسن وشرف وهو منصوب لتضمين تطوع معنى أتى، أو يكون (خَيْراً) صفة لمصدر محذوف؛ أي: تَطُوَّعاً خيراً. ولا شك أن الخير هنا مُتطوع به فهو الزيادة من الأمر الذي الكلام بصدده، وهو الإطعام لا محالة، وذلك إطعام غير واجب فيحتمل أن يكون المراد: فمن زاد على إطعام مسكين واحد فهو خير، وهذا قول ابن عَبَّاس رضي الله عنهما، أو أن يكون: من أراد الإطعام مع الصيام، قاله ابن شِهاب، وعن مجاهد، من زاد في الإطعام على المد وهو بعيد؛ إذ ليس المُد مُصرَّحاً به في الآية، وقد أطعم  أنس بن مالك خُبزاَ ولحماً عن كل يوم أفطره حين شاخ .. و (خَيْرٌ) الثاني في قوله: (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ) يجوز أن يكون مصدراً كالأول، ويكون المراد به (خيراً آخر)؛ أي: خير الآخرة  .. ويجوز أن يكون (خَيْرٌ) الثاني تفضيلاً؛ أي: فالتَّطوع بالزيادة أفضل من تركها، وحذف المفضل عليه لظهوره ..

 ____________

* - للموضوع –صلة- بمشيئة الله تعالى ..

من تفسير " التحرير والتنوير"؛ لإمام أهل المغرب، العلاّمة محمد الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

 

 


مقالات ذات صلة