تفاصيل المقال
 
                تفسير آيات الصيام من تفسير (روح المعاني) - (7) - لإمام أهل العراق، العلاَّمة شهاب الدين، السيد محمود الآلوسي (رحمه الله) ..
قوله تعالى: (نِسَائِكُمْ): والنساء جمع نسوة، فهو جمع الجمع، أو جمع امرأة على غير اللفظ، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص؛ إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي، إما بتزويج أو ملك، وقرأ عبد الله: (الرُّفُوثُ)، (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) أي: هُنَّ سكن لكم وأنتم سكن لهن، قاله ابن عباس رضي الله عنهما حين سأله نافع بن الأزرق، وأنشد رضي الله تعالى عنهما لما قال له هل تعرف العرب ذلك؟ قول الذبياني:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهُ *** تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسَاً
ولمَّا كان الرجل والمرأة يتعانقان ويشتمل كل منهما على صاحبه، شبَّه كل واحد بالنظر إلى صاحبه باللِّباس، أو لأن كل واحد منهما يستر صاحبه، ويمنعه عن الفجور، وقد جاء في الخبر: ((مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ أَحْرَزَ ثُلُثَيْ دِينِهِ))، والجملتان مستأنفتان استئنافا نحوياً، والبياني يأباه الذوق، ومضمونهما بيان لسبب الحكم السابق، وهو قلة الصبر عنهن كما يُستفاد من الأولى، وصعوبة اجتنابهن كما تُفيده الثانية، ولظهور احتياج الرجل إليهن، وقلة صبره؛ قدم الأولى، وفي الخبر: ((لَا خَيْرَ فِي النِّسَاءِ، وَلَا صَبْرَ عَنْهُنَّ، يَغْلِبْنَ كَرِيمًا، وَيَغْلِبُهُنَّ لَئِيمٌ، وَأُحِبُّ أَنْ أَكُونَ كِرِيمًا مَغْلُوبًا، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ لَئِيمًا غَالِبًا)) ..
(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) جملة معترضة بين قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ) إلخ، وبين ما يتعلق به، أعني (الْآنَ) إلخ؛ لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم قبل الإحلال، ومعنى علم تعلق علمه، و (الاختيان) تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة البليغة، فيكون المعنى: تنقصون أنفسكم تنقيصاَ تامّاً بتعريضها للعقاب، وتنقيص حظها من الثواب، ويؤول إلى معنى: تظلمونها بذلك، والمراد الاستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال، كما ينبئ عنه صيغتا الماضي والمضارع، وهو مُتعلق العلم، وما تفهمه الصيغة الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على الأزلي الذاهب إليه البعض (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) عطف على (عَلِمَ) والفاء لمجرد التعقيب، والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه ..
(وَعَفَا عَنكُمْ) أي: محا أثره عنكم وأزال تحريمه، وقيل: الأول لإزالة التحريم، وهذا لغفران الخطيئة، (فَالْآنَ) مُرتب على قوله سبحانه وتعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ) نظراً إلى ما هو المقصود من الإحلال، وهو إزالة التحريم؛ أي: حين نسخ عنكم تحريم القربان، وهو (لَيْلَةَ الصِّيَامِ)، كما يدل عليه الغاية الآتية، فإنها غاية للأوامر الأربعة التي هذا ظرفها، والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل نسخ التحريم، وليس حاضراً بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى: (بَاشِرُوهُنَّ)، وقيل: إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر، إلاَّ أنَّه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلاَ له منزلة الحاضر، وهو المراد هنا، أو إنَّه مُستعمل في حقيقته، والتقدير قد أبحنا لكم مُباشرتهن، وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة، وأطلقت على الجماع للزومها لها ..
 
(وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي: اطلبوا ما قدَّره الله تعالى لكم في اللَّوح من الولد، وهو المروي عن ابن عباس والضَّحاك ومُجاهد رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم، والمراد الدعاء بطلب ذلك؛ بأن يقولوا: اللهم ارزقنا ما كتبت لنا، وهذا لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنَّه قدر له ولد، وقيل: المراد ما قدَّره لجنسكم والتعبير بـ (مَا) نظراً إلى الوصف، كما في قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) [سورة الشمس:  (5)] ..
وفي الآية دلالة على أن المُبَاشِر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل -لا قضاء الشَّهوة فقط- لأنَّه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى غاية، كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم، وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل، أو عن إتيان الْمَحَاشِّ ..
وبعضٌ فَسَّر من أول مرة (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) بما سَنَّ وشرع من صب الماء في محله؛ أي: اطلبوا ذلك دون العزل والإتيان المذكورين -والمشهور حُرمتهما- أما الأول: فالمذكور في الكُتُبِ فيه: أنه لا يعزل الرجل عن الحُرَّة بغير رضاها، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها، أو رضا سيدها على الاختلاف بين الإمام (أي الإمام أبي حنيفة رحمه الله) وصاحبيه، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها؛ إذ لا حق لها..
وأما الثاني: فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه -إن شاء الله تعالى- ، وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه: تفسير ذلك بليلة القدر، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا، وعن قتادة أن المراد: (وَابْتَغُوا) الرخصة (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) تعالى لكم؛ فإنَّ الله تعالى ((يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ))، وعليه: تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها ..
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: (( كَيْفَ تُقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةُ: (ابْتَغَوُا) أَوِ (اتْبَعُوا)؟، فَقَالَ: أَيُّهُمَا شِئْتَ، وَعَلَيْكَ بِالْقِرَاءَةِ الْأُولَى)) ..
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الليل كُلَّهُ، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ)، أَيْ: يَظْهَرَ. لَكُمُ (الْخَيْطُ الأَبْيَضُ) وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ قَبْلَ انْتِشَارِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْفَجْرِ الْكَاذِبِ الْمُسْتَطِيلِ الْمُمْتَدِّ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ، وَهْمٌ (مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) وَهُوَ مَا يَمْتَدُّ مَعَ بَيَاضِ الْفَجْرِ مِنْ ظُلْمَةِ آخِرِ اللَّيْلِ ..
(مِنَ الْفَجْرِ) بَيَانٌ لِأَوَّلِ الْخَيْطَيْنِ، وَمِنْهُ يَتَبَيَّنُ الثَّانِي، وَخَصَّهُ بِالْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، وَقِيلَ: بَيَانٌ لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ (الْفَجْرَ) عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِهِمَا، لِقَوْلِ الطَّائِيِّ :
وَأَزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أَبْيَضِهِ
فهو على وزان قولك: حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم، وبهذا البيان خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه؛ لأن شرطها عندهم تناسيه بالكُلِّية، وادعاء أنَّ المشبه هو المشبه به لولا القرينة والبيان، ينادي على أن المراد مثل هذا الخيط وهذا الخيط؛ إذ هما لا يحتاجان إليه، وَجَوَّزَ أن تكون (مِنْ) تبعيضية؛ لأن ما يبدو جُزء من (الْفَجْرِ) كما أنه فَجر بناء على أنَّه اسم للقدر المشترك بين الكُلِّ والجزء، و (مِنْ) الأولى قيل: لابتداء للغاية، وفيه أنَّ الفعل المتعدي بها يكون مُمتداً، أو أصلاً للشيء الممتد، وعلامتها أن يُحسن في مُقابلتها (إِلَى) أو ما يفيد مفادها، و (مَا) هنا ليس كذلك، فالظاهر أنها متعلقة بــ (يَتَبَيَّنَ)، بتضمين معنى التميز، والمعنى: حتى يتضح لكم الفجر مُتميزاً عن غبش الليل، فالغاية إباحة ما تقدم ..
* - للموضوع –صلة- بمشية الله تعالى ..
* - للإمام شهاب الدين، السيد محمود، الألوسي (رحمه الله) ..
مقالات ذات صلة
- 
                      مُبارك عليكم العيد .. وتقبَّل اللهُ منَّا ومنكُم صالحَ الأعمال ..مُبارك عليكم العيد .. تقبَّل الله منَّا ومنكم صالح الأعمال .. وجعله الله عيد خير وبركة وسلام وأمن وأمان لأمَّة… السبت 10 ذو الحجة 1443 هـ 09-07-2022 م
- 
                      عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (4) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. في (سُوريا) .. وما أدراكم ما (سُوريا) .. قلب بلاد الشام الجميلة… الثلاثاء 9 شوال 1443 هـ 10-05-2022 م
- 
                      عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (3) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. ونحن نرى ونُشاهد ما يحدثُ لإخواننا المسلمين في (تُركستان الشرقية) بـ(الصِّين) الشُّيوعية… الاثنين 8 شوال 1443 هـ 09-05-2022 م





