تفاصيل المقال

تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير) –(3)- لإمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير) –(3)- لإمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

والمرُاد بالأيام من قوله: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) شهر رمضان عند جمهور المفسرين، وإنما عبَّر عن رمضان (بأيام) وهي جمع قلة، ووصف (بمعدودات) وهي جمع قلة أيضا؛ تهويناً لأمره على المكلفين، و (المعدودات) كناية عن القلة؛ لأنَّ الشيء القليل يُعَدُّ عدّاً؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يُعد، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع (بألف وتاء)، وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه (هاء تأنيث) أكثر، قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ): صفة الجمع الذي لا يعقل تارة،  تعامل معاملة الواحدة المؤنثة، نحو قوله تعالى: (إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً) [سورة البقرة: 80]، وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)؛ فمعدودات جمع لمعدودة، وأنت لا تقول: (يوم معدودة)، وكلا الاستعمالين فصيح، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقاً، وذلك أنَّ الوجه في الوصف الجاري على جمع مُذكر إذا أنثوه، أن يكون مُؤنثاً مُفرداً؛ لأنَّ الجمع قد أول بالجماعة، والجماعة كلمة مفردة، وهذا هو الغالب، غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع، أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث؛ ليكون في معنى الجماعات، وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة، ولذلك فأنا أرى أن (معدودات) أكثر من (معدودة)، ولأجل هذا قال تعالى: (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً)؛ لأنهم يُقللونها غُروراً أو تغريراَ ..

 

وقال هنا: (معدودات)؛ لأنها ثلاثون يوماً، وقال في الآية الآتية: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ)، وهذا مثل قوله في جمع (جَمل) جِمَالات على أحد التفسيرين، وهو أكثر من (جِمَال)، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة؛ تقول: الجذوع انكسرت، والقليل منه يجيء بصيغة الجمع؛ تقول: الأجذاع انكسرت أهـ . وهو غير ظاهر ..

 

وقيل: المراد بالأيام غير رمضان، بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فُرض الصيام، بقوله: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) ثُمَّ نُسخ صومها بصوم رمضان، وهي يوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر؛ وهي أيام البيض: (الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر)، وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء،  ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلا صوم يوم عاشوراء، كما في الصحيح، وهو مفروض بالسُّنَّة، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء، والأيام البيض كان فرضاَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يثبت رواية، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظاً ولا أثراً، على أنَّه قد نُسخ ذلك كله بصوم رمضان،  كما دلَّ عليه حديث السائل الذي قال: ((ا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ)) ..

 

قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ..

تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع، وتقديمه هُنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم، تعجيل بتطمين نفوس السامعين، لئلا يَظُنُّوا وجوب الصوم عليهم في كل حال ..

 

والمريض من قام به المرض، وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حُمَّى أو وجع أو فشل ..

وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض معه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مُقاربته، فلا خلاف بينهم في أنه مُبيح للفطر، بل يُوجب الفطر، وأمَّا المرض الذي دُون ذلك، فقد اختلفوا في مقداره: فذهب مُحققو الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به مع الصيام مشقة زائدة على مشقة الصوم للصحيح من الجوع والعطش المعتادين، بحيث يُسبب له أوجاعاً أو ضعفاً مُنهكاً، أو تعاوده به أمراض ساكنة، أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض، أو يخاف تمادي المرض بسببه. وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير، وأعدل العبارات ما نُقل عن مالك؛ لأن الله أطلق المرض ولم يُقيده، وقد علمنا أنه ما أباح الفطر إلاَّ لأنَّ لذلك المرض تأثيراً في الصائم ..

 

ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفَرْقِ الرَّابع عشر؛ إذ قال: إن المشاق قسمان: قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة:  كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد ..

وقسم هو ما تنفك عنه العبادة: وهذا أنواع: نوع لا تأثير له في العبادة؛ كوجع إصبع، فإنّ الصوم لا يزيد وجع الإصبع، وهذا لا التفات إليه ..

 ونوع له تأثير شديد مع العبادة؛  كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع، وهذا يُوجب سقوط تلك العبادة .. ونوع يَقْرُب من هذا؛ فيوجب ما يُوجبه ..

 
وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أنَّ المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر، ولو لم يكن الصوم مُؤثراً فيه شدة أو زيادة؛ لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر، كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعو إلى الفطر ضرورة كما في السفر، يُريدون أنَّ العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالبا، قيل: دخل بعضهم على ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: "إِنَّهُ وَجَعَتْنِي إِصْبَعِي هَذِهِ، فَأَفْطَرْتُ" ..

وعن البخاري قال: "اعْتَلَلْتُ بِنَيْسَابُورَ عِلَّةً خَفِيفَةً فِي رَمَضَانَ، فَعَادَنِي إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لِي: أَفْطَرْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ: نَعَمْ، أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيِّ الْمَرَضِ أُفْطِرُ؟ قَالَ: مِنْ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا) ..  

وقيل: إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائماً أفطر، وإنَّما هذه حالة خاصة تصلح مثالاً، ولا تكون شرطاً، وعزي إلى الحسن والنخعي ولا يخفى ضعفه؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك، ونقر به من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض  ..

_____________________

* - للموضوع –صلة- بمشيئة الله تعالى ..

من تفسير " التحرير والتنوير"؛ لإمام أهل المغرب، العلاّمة محمد الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

 

 

 



مقالات ذات صلة