تفاصيل المقال

تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير) –(2)- لإمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

تفسير آيات الصيام من (التحرير والتنوير) –(2)- لإمام أهل المغرب، العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

 (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) ..

 

فهذه الآية شرعت وجوب صيام رمضان؛ لأن فعل " كُتب" يدل على الوجوب، وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم، فيكون صوم عاشوراء تَقَدّم عاماً، ثُمَّ فُرض رمضان في العام الذي يليه، وفي الصحيح:  ((أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات))، فلا شك أنَّه صام أوّل رمضان في العام الثاني من الهجرة، ويكون صوم عاشوراء قد فُرض عاماً فقط، وهو أول العام الثاني من الهجرة ..

 

 

والمراد بــ (الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) من كان قبل المسلمين من أهل الشرائع، وهم أهل الكتاب - أعني اليهود - لأنَّهم الذين يعرفهم المُخاطبون، ويعرفون ظاهر شئونهم، وكانوا على اختلاط بهم في المدينة، وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم، وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم، وهو الشهر المسمى عندهم (تسري) يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع، إلى غروب اليوم العاشر، وهو يوم كفارة الخطايا، ويسمونه (كبور)، ثم إنَّ أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى، وهي الأيام الأُول من الأشهر الرابع، والخامس، والسابع، والعاشر من سنتهم تذكاراً لوقائع بيت المقدس، وصوم يوم (بوريم) تذكاراً لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم "أحشويروش" في واقعة (استير) وعندهم صوم التطوع، وفي الحديث: ((أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ: صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا))   ..

 

 أَمَّا النَّصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتَّبعون صوم اليهود، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، ثُمَّ إِنَّ رُهْبَانَهُمْ شَرَعُوا صَوْمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا اقْتِدَاءً بِالْمَسِيحِ، إِذْ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَبْلَ بَعْثَتِهِ)) ..

 ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها، إلا أنَّهم يتوسعون في صفة الصوم، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة ..

 

وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بيان لحكمة الصيام ،وما لأجله شُرع، فهو في قوة المفعول لأجله لـ ( كُتِبَ) و " لعل" إمَّا مُستعارة لمعنى " كي" استعارة تبعية، وإمَّا تمثيلية بتشبيه شأن الله في إرادته من تشريع الصوم التقوى، بحال المترجي من غيره فعلاً ما، والتَّقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنَّما كان الصيام مُوجباً لاتقاء المعاصي؛ لأنَّ المعاصي قسمان:

 قسم: ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب، فتركه يحصل بالوعد على تركه، والوعيد على فعله، والموعظة بأحوال الغير ..

 وقسم: ينشأ من دواع طبيعية؛  كالأمور الناشئة عن الغضب، وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها؛ لأنه يُعَدِّل القُوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية، والانتفاض من غبار الْكُدُرَاتِ الحيوانية ..

وفي الحديث الصحيح: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ))، أي: وقاية، ولما ترك ذكر مُتعلق (جُنَّةٌ) تعيَّن حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم، ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللَّذات ..

 

 وقوله تعالى: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) ظرف للصيام، مثل قولك: الخروج يوم الجمعة، ولا يضر وقوع الفصل بين "الصيام" وبين "أياما"، وهو قوله: (كَمَا كُتِبَ) إلى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)؛ لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من "لعل" كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه، وهو قوله "صيام"، ومن تمام العامل في ذلك العامل وهو (كُتِبَ) فإنَّ عامل العامل في الشيء، عامل في ذلك الشيء ، ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفاً، لاتساعهم في الظروف، وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضي، ومرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف، تجنباً للتعقيد المُخل بالفصاحة ..

 

والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها، وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللَّذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدّعة، وكُلُّ ذلك يُوفر القوى الجسمانية والدموية في الأجساد، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القُوّة الشهوية والقوة الغضبية، وتَطْغَيَان على القُوَّة العاقلة، فجاءت الشرائع بشرع الصيام؛ لأنه يفي بتهذيب تلك القوى، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مُثيرات إفراطها، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات مُعينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى ..

 

والصَّوم بمعنى إقلال تناول الطَّعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشَّبع، أو ترك بعض المأكل، أصل قديم من أصول التقوى لدى المِلِّيِّين، ولدى الحُكماء الإِشْرَاقِيِّين، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان، بناء على أن للإنسان قُوتين: إحداهما: روحانية مُنبثة في قرارتها من الحواس الباطنية، والأُخرى: حيوانية مُنبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها .... 

 

ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفية التي جاء بها الإسلام ....

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ   ***  وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا

فَيُوشِكُ أَنْ تَلْقَى لَهُ الدَّهْرَ سُبَّةً  ***   إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا

 

فإن قلت: إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات، وإثارة الشعور بما يُلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع، واستشعار المساواة بين أهل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات بين الفريقين من الطعام والشراب واللهو، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام، ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة، ولم تكل ذلك إلى المسلم يتخذ لإراضة نفسه ما يراه لائقاً به في تحصيل المقاصد المرادة ..

 

قُلت: شأن التعليم الصالح أن يضبط للمتعلم قواعد وأساليب تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يُزاولها، فإن مُعلم الرياضة البدنية يضبط للمتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصاباً وركوعاً وقُرفصاء، بعض ذلك يُثمر قوة عضلاته وبعضها يُثمر اعتدال الدورة الدموية، وبعضها يثمر وظائف شرايينه، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة، وأَدْنوا بها حصول الثمرة المطلوبة، ولو وكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم، وهذا يدخل تحت قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرِ) ..

_____________

* - للموضوع –صلة- بمشيئة الله تعالى ..

من تفسير " التحرير والتنوير"؛ لإمام أهل المغرب العلاّمة الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة (رحمه الله) ..

 

 



مقالات ذات صلة