تفاصيل المقال

كيف نستقبل شهر رمضان؟ - (3)- بقلم: د. حمدي أبو سعيد

كيف نستقبل شهر رمضان؟ - (3)- بقلم: د. حمدي أبو سعيد

 

[5]

وقفات مُهمة بين يدي استقبال رمضان ...

لقد أقبل علينا هذا الشهر الكريم الذي تُرفع فيه الدَّرجات وتُكَفَّرُ فيه السَّيئات، ضيفاً عزيزاً، بل نحن الضُّيُوف عليه؛ فلَرُبَّما الواحدُ منَّا يكُون في ضيافته للمرَّة الأخيرة .. أو لرُبَّما ينزل هُو في ضيافة غيرنا بعد أعمارٍ قصيرة .. فهلاَّ أكرمنا ضيفنا؟! .. وهلاَّ تعرضنا لنفحات الله فيه ورحماته؛ فيا لها من فُرصة عظيمة أن نُدْرك هذا الفضل الكبير، الذي يتطلَّب منَّا استعداداً خاصّاً وعملاً خاصّاً للفوز بما أعدَّه الله فيه من الخير والبركات والأنوار والرَّحَمات لعباده الصَّائمين .. وحتَّى يكُون الاستقبالُ حافلاً، والاستعدادُ كاملاً يليق بحُرمة وبركة ومكانة هذا الشَّهر الكريم؛ كان من الأجدر والأليق أن نَّخُصَّ هذا الشَّهر المبارك بمزيد من العناية والرِّعاية والاحتفاء .. وحتى نستفيد من أوقاتنا في هذا الشهر الفضيل الاستفادة المُثلى، وحتَّى يكُون صيامُنا مقبُولاً وعملُنا فيه مُتقبَّلاً مأجُوراً، وحتى نُخلِّصَ صيامنا من إِلْف العادة إلى جَوهر وروح العبادة؛ فمع هذه الوقفات المهمة بين يدي هذا الشهر المبارك:

 

1 – أولاً: ينبغي على كُلِّ أحدٍ أن يُحاسب نفسه على تقصيرها وتفريطها في حق الله تعالى عليه، بترك الواجبات الشرعية أو التقصير في أدائها، أو فعل الذنوب والمعاصي والآثام التي اقترفها وسوَّد بها صحائف أعماله، وللذُّنوب والمعاصي آثار مُدمِّرة على الأفراد والمجتمعات والأمم؛ فهي شُؤم على صاحبها وعلى من يُخالطهم؛ فإن: (العبدَ ليحرمُ الرزقَ بالذنبِ يصيبُه)؛ كما قال نبيُّنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، كما أنها شُؤم على الدِّول والمجتمعات والأُمم، فكم من دولة أسقطتها الذنوب والمعاصي، وكم من أمة دمرتها، وأتت على بُنيانها من القواعد ..

قال العلامة ابن رجب رحمه الله في [لطائف المعارف: (ص262)]: "فمن أراد الله به خيراً حبَّبَ إليه الإيمان وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكُفر والفُسُوق والعِصْيان، فصار من الرَّاشدين ..  ومن أراد به شرّاً خَلَّى بينه وبين نفسه، فأتبعهُ الشَّيطانُ، فحبَّبَ إليه الكُفر والفُسُوقَ والعِصيان، فكان من الغاوين ..

"الحذَرَ الحَذَرَ من المعاصي، فكَمْ سَلَبَتْ من نِعَمٍ، وكم جَلَبَتْ من نِقَم، وكم خَرَّبَتْ من ديار، وكم أخْلَتْ من دياراً من أهلها، فما بقي منهم دَيَّارٌ، كم أخذتْ من العُصاةِ بالثار، كم مَحَتْ لهُم من آثار ..

يا صاحبَ الذَّنب لا تأمَنْ عواقبَهُ   ***   عواقبُ الذَّنب تُخْشَى وَ هْيَ تُنْتَظَرُ

فكُلُّ نَفسٍ سَتُجْزَى بالذي كَسَبَتْ   ***   وليس للخَلْق مِن ديَّانِهِم وَزَرُ

 

 فيجب على العبد أن يُقلع عن الذنوب والمعاصي، وأن يَكُفَّ عنها، وأن يُقبل على ربِّه تائباً مُستغفراً مُنيباً؛ قبل أن لا يستطيع أن يتوب، فقد يأتيه مرضِ عُضال يُنسيه، أو يُدركه الموت فيُرديه، ويقف بين يدي الله موقف الخزي والندامة؛ ويكون  كمن قال الله في شأنه: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118). [سُورة: المؤمنون] ..

 

فالبدار البدار إلى التوبة والاستغفار، والمسارعة إلى طلب العفو والغُفران؛ والله جلَّ وعلا يقول في مُحكم كتابه الكريم: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136).[سورة آل عمران] ..

 

والمسارعة إلى مُحاسبة النَّفس قبل أن تُحاسب هو شأن العُقلاء النُّبلاء؛ ففي الحديث الشَّريف: عن شَدَّادِ بْن أَوْسٍ رضي اللَّه عنه، أَنَّ النَّبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، قَالَ: ((الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ))[رياض الصالحين؛ للإمام النووي؛ برقم: (66)؛ وقال: (رواه التِّرْمِذيُّ؛ وقالَ: حديثٌ حَسَنٌ)]؛ ومَعْنَى، ((دَانَ نَفْسَه)): أي: حَاسَبَهَا) ..

وهذا سيدنا الفاروقُ عُمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ يقول: ((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا؛ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)).[رواه ابن أبي الدُّنيا في مُحاسبة النَّفس: (ص:22)، وأحمد في الزُّهد: (ص:120)] ..

 

لذا فإنَّه يجب المُبادرة إلى التَّوبة النَّصوُح الصادقة؛ وحقيقة التوبة؛ هي: (الإقلاعُ الفوري عن الذُّنُوب والمعاصي، والنَّدم على فعلها، وعَقْد العزم الأكيد على عدم العودة إليها؛ هذا إذا كانت المعصية تتعلَّق بحقٍّ من حُقوق الله تعالى؛ أَمَّا إذا كانت المعصية تتعلَّق بحق إنسانٍ؛ فيُضاف إلى هذه الشروط الثلاثة المتقدِّمَة؛ شرطاً رابعاً؛ هُو: (ردُّ الحقوق والمظالم إلى أهلها)، والله جلَّ وعلا قد أمر بالتَّوبة الصادقة في كتابه الكريم، وحثَّ المسلمين عليها؛ فقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة النور: (31)] ..

 وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).[سورة التحريم: (8)]؛ والتوبة النَّصوح: هي التوبة الصادقة ..

 

وفتح سُبحانه وتعالى باب التوبة والإنابة والعودة والرَّجاء والبشارة لعباده؛ وطلب من حبيبه صلى الله عليه وسلم أن يُبشِّرَهُم بذلك؛ فقال جلَّ شأنه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54).[سورة الزُّمَر] ..  

 

ومن سعة رحمة الله تعالى وشفقته على عباده وحِرصه على أن يُقبلوا عليه تائبين؛ أوحى لرسوله صلى الله عليه وسلَّم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هُو إلاَّ وحيٌ يُوحَى، بأن يقول لأُمته صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا) [صحيح مُسلم؛ برقم: (2759)])  ..

وأنَّه سُبحانه وتعالى يفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه؛  بل يكُون أشَدُّ فرحاً بذلك؛ كما في الحديث الشريف: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)).[صحيح البخاري؛ برقم: (6308)، و (صحيح مسلم؛ برقم: (2747)] ..

 

فهل نُبادر بالتوبة والعودة إلى الله جلَّ وعلا؟ ، ونُحسن استقبال هذا الشهر المبارك، وقد أقلعنا عن الذُّنوب والمعاصي، وتوجَّهنا بكُلِّيتنا توجُّهاً صادقاً إلى الله سبحانه وتعالى، عسى أن تنكشف الغُمَّة، وتتنزل علينا رحمات الله ورضوانه .. وأسأل الله العلي القدير أن يُوفِّقنا لتوبة نصوح صادقة، وأن يجعلنا من عُتقائه من النَّار في هذا الشهر الفضيل،  وأن ينفعنا بالقُرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأن يُعيننا بفضله وكرمه على الصيام والقيام وصالح الأعمال .. وكُلُّ عام وأنتم بخير .. وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيدنا الحبيب مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين ..

 

  • - للموضوع -صلة وتكملة بمشيئة الله تعالى-
  • - بقلم: د. حمدي أبو سعيد 

 

 



مقالات ذات صلة