تفاصيل المقال

كيف نستقبل شهر رمضان؟ - (1)- بقلم: د. حمدي أبو سعيد

كيف نستقبل شهر رمضان؟ - (1)- بقلم: د. حمدي أبو سعيد

[1]

لقد أظلنَّا هذا الشهر المُبارك، وحلَّ بساحتنا هذا الضيف الكريم رحمة من الله بنا وعطْفاً وحناناً، ليُقرب عباده إلى طاعته، ويجمعهم على الذكر والقيام بعبادته، لينالوا عنده المنازل العالية، والمكانة السامية؛ فالحمد لله أولاً وآخراً على هذه النعمة العظيمة والمنة الكبيرة التي اختصَّنا الله بها من شُهود هذا الشهر الكريم والتي حُرم منها بعض النَّاس، إمَّا بسبب إعراض عن دين الله جلَّ وعلا، وإمَّا بقضاء الله على آخرين بالموت الذي نزل بهم قبل بُلوغه؛ والفطن الذكي الواعي هُو من ينتهز فُرصة العُمر بعمارته في طاعة الله سُبحانه وتعالى قبل أن ينزل به ما نزل بهؤلاء ..

فرمضان نعمة كبيرة ساقها الله إلينا لتربية النَّفس على طاعة الله تعالى، وتهذيبها بالقُربات النافعة، وتزكيتها بالأعمال الصالحة، لنعيش في رحاب الله الكريم آمنين مُطمئنين فرحين بما أعد اللهُ لعباده الصائمين في جنَّات النعيم ..

 

[2]

يا باغيَ الخير أقبل ..

ورمضانُ هُو دُرَّة الطاعات، وتاج العبادات، وموسم الخيرات، وسُوق الحسنات؛ فالسعيد من أحسن التجارة، وأحكم صِنْعنها، ولبَّى المُنادي: يا باغي الخير، أقبل .. فأقْبِل بهمة الصالحين، وفرح المحبين، وبُكاء المستغفرين، ووجل الخاشعين، وتهجد القانتين، وهمة المُسبِّحين، وتلاوة الذاكرين .. فلا نامت أعين أَعْيُن الكُسالى الخاسرين: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [سورة محمد: (31)] ..

 

فالله .. الله عباد الله .. عمِّروا أوقاتكم بالذكر والخُشوع .. وزينوها بالركوع والسجود، ومتعوا الأعين، وشنِّفوا الآذان بتلاوة وسماع كلام أعظم معبود سُبحانه وتعالى، وعطِّروا البيوت بسيرة النبي الحبيب المصطفى الموعود، وطهروا قلوبكم وألسنتكم ونُفوسكم من الغل والحقد والإحن والبغضاء والكذب والحسد والغيبة والنميمة وإيذاء الناس؛ فالمسلم الحقيقي: من سلم الناسُ من لسانه ويده؛ (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [سورة التحريم: (8)] ,,

 

[3]

أتاكم رمضانُ، شهرٌ مُبارك ..

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبشِّر أصحابه رضي الله عنهم بقدوم رمضان، بُشرى التشَوُّق لبركاته، والتشَوُّق لرحماته ونفحاته في كل ساعاته وأوقاته ودقائقه ولحظاته .. بُشرى المحب لرمضان الكريم، العارف بفضائله وخيراته؛ فكان يقول لهم كما في الحديث: ((أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الجنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وَ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ )) [أخرجه النسائي؛ برقم: (2106)، وسنده صحيح] ..

قال الإمام بن رجب الحنبلي رحمه في [لطائف المعارف: (ص265)]: "قال بعض العلماء: هذا الحديث أصلٌ في تهنئة النَّاس بعضهم بعضاً بشهر رمضان". وقال القاري في [مرقاة المفاتيح: (4/1365)] في شرحه لهذا الحديث:" وَهُوَ أَصْلٌ فِي التَّهْنِئَةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي أَوَّلِ الشُّهُورِ، بِالْمُبَارَكَةِ " ..

" و كيف لا يُبَشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان، وكيف لا يُبشَّر المُذنب بعلق أبواب النيران، وكيف لا يُبشَّر العاقل بوقت يُغلُّ فيه الشيطان" ..

 

وإذا وقفنا لحظة مع هذا الحديث المبارك وأمْعَنَّا النظر في كلماته الجميلة ومعانيه الدقيقة؛ لوجدنا خيراً كثيراً من رحمات الله وبركاته على عباده الصالحين في رمضان، ولرأينا كيف امتنَّ الله عليهم فيه؛ بأن جعله شهراً مُباركاً تفيض بركاته وخيراته على العباد نعمة منه وتفضلاً، فَفِيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، وتُصفَّدُ فيه مَردة الشياطين، وزاد من فضله الكريم سبحانه وتعالى على عباده بأن جعل ليلة واحدة من لياليه، هي ليلة القدر: خيرٌ من ألف شهر ..

وإذا كان الحال كذلك .. فإنَّ هذه النعم العظيمة تستوجب شُكر الله جلَّ وعلا عليها، ولك أن تتخيَّل "أنَّ فُرصة شهر هذه صفاته، وتلك نفحاته، لاحت لك فلم تغتنمها، على أمل انها ستعود وتعود، ولم تكن عبادتُك فيها عبادة مُودِّع، حتى فاتتك أوقاتها وتجاوزتك رحماتها.!"، ولا حول ولا قُوة إلاَّ بالله .. فماذا سيكُون حالك بعدها؟!.. [روح الصيام؛ د. عبد العزيز كامل: (ص10)] ..  

فليس المحروم من حُرم الأهل والمال والولد، ولكن المحروم من حرم نفسه من التعرض لنفحات الله ورحماته ورضوانه ..

 

وبلغ من شدة حرص الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين واهتمامهم بمواسم الخير، وحُسن استقبالهم لها؛ أنهم كانوا: ((يدعون الله ستة أشهر (قبل رمضان) أن يُبلِّغهم رمضان، ثمَّ يدعونه ستة أشهر (بعد رمضان) أن يتقبَّله منهم)) ..

وقال العبدُ الصالح يحي بن كثير رحمه الله ورضي عنه: "كان من دُعائهم (أي الصحابة رضي الله عنهم): ((اللهم سَلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان، وتَسَلَّمُه منيِّ مُتَقَبَّلاً)) ..

هكذا كان جيل القُدوة الصالحين رضي الله عنهم أجمعين يستقبلون رمضان المبارك بقلوب فرحة مُتهللة، ونُفوس طَرِبَة مُستبشرة، وكانوا يستعدون لذلك أحسن الاستعداد وأصدقه؛ بما يدل على قُلوب حيَّة نقيَّة، ونُفوس طاهرة زكيَّة، تَعْرِفُ قدْر هذا الشهر الكريم، وما أعد الله فيه من الخيرات والبركات والرَّحَمّات لعباده الصائمين ..

 

[4]

يا له من نعمة عظيمة ..

إنَّ بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من وفقه الله إليه، وأقْدره عليه؛ ويدُلُّ على ذلك حديث الرَّجُلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استشهد أحدهما في سبيل الله، وكان كثير الاجتهاد والعبادة، وبقي الآخر حيّاً يُرزق حيناً من الدَّهر حتَّى مات على فراشه؛ فرُئي في المنام وهُو في منزلة أعلى من منزلة صاحبه في الجنَّة؛ وتعجَّب الصحابة من ذلك؛ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((أليس قد مَكَثَ هذا بَعدَه سَنةً؟، قالوا: بلى، قال: وأَدرَكَ رمضانَ فصامَه؟، قالوا: بلى، قال: وصَلَّى كذا وكذا سَجدةً في السَّنَةِ؟ قالوا: بلى، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فلَمَا بيْنهُما أَبْعَدُ ما بيْن السَّماءِ والأرضِ))[مسند أحمد؛  برقم: (1403)؛ وصححه العلاَّمة أحمد شاكر] .. ، وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف؛ أنَّ رجلًا قالَ: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ النَّاسِ خيرٌ ؟، قالَ: ((مَن طالَ عمرُهُ ، وحَسنَ عملُهُ))، قالَ : فأيُّ النَّاسِ شرٌّ ؟، قالَ : ((مَن طالَ عمرُهُ، وساءَ عملُهُ)) [صحيح الترمذي؛ برقم: (2330)] ..

 

من رُحم في رمضان، فهو المرحُوم حقّاً، ومن حُرم خيره، فهو المحروم صِدْقاً، ومن لم يتزود فيه لآخرته فهو الملوم عَدْلاً ..

أتى رمضان مَزرعة العباد  *** لتطهير القُلوب من الفساد

فأدِّ حُقوقه قولاً وفعلاً    ***    وزادك فاتَّخدْهُ للمَعاد

فمن زرع الحُبوب وما سقاها ***  تأوَّه نادماً يوم الحصاد

"يامن طالت عيبته عنَّا، قد قَرُبت أيام المصالحة، يا مَنْ دامت خَسَارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، من لم يربح في هذا الشَّهر، ففي أيِّ وقت يربح؟! .. من لم يَقْرُب فيه من مولاه، فهُو على بُعده لا يبرح" [لطائف المعارف؛ (ص264)] ..

 

[5]

تكريمٌ .. وأي تكريم ..

لقد كرَّم الله شهر رمضان المبارك، الذي استقبلت فيه الأرض أول أنوار السماء؛ بنزول تباشير الوحي الإلهي (القُرآن العظيم) في ليلة من لياليه ألا وهي ليلة القدر، و كان هذا الشهر المبارك هو الذي بدأت فيه شرارة الانطلاق لتكوين أمة عظيمة وقيام حضارة مجيدة، وبلغ من تكريم الله لهذا الشهر المبارك أن جعله موسم خير شامل على عباده؛ حين اختار لهم فيه أفضل العبادات، وطاعة من أجَلِّ القُربات؛ ألا وهي عبادة "الصَّوْم"، التي قال الله جلَّ وعلا عنها: ((كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ له، إلا الصِّيامَ، فهو لي، وأنا أَجْزي به، إنما يَتْرُكُ طَعامَه وشَرابَه مِن أَجْلي، فصِيامُه لي وأنا أَجْزي به، كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثالِـها، إلى سَبْعِمِئةِ ضِعْفٍ، إلَّا الصِّيامَ، فهو لي، وأنا أَجْزي به))[والحديثُ أصله في الصحيحين، وهذه رواية: مُسند الإمام أحمد؛ برقم: (7494 )، وصححه الشيخ شُعيب الأرناؤوط] .. أسأل الله العلي القدير أن يُعيننا في هذا الشهر الفضيل على ذكره وشُكره وحُسن عبادته، وأن يُوفقنا بفضله وكرمه لحُسن الصلاة الصيام والقيام وتلاوة القُرآن وصالح الأعمال، هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وكُل عام وأنتم بخير ..

 

  • - للموضوع -صلة وتكملة بمشيئة الله تعالى-
  • - بقلم: د. حمدي أبو سعيد

 

 



مقالات ذات صلة