تفاصيل المقال

القُرآن العظيم وأثره في الاستراتيجيات العبقرية للنبي صلى الله عليه وسلم  – (2) .. العالم الجليل، فضيلة الشيخ عبد اللطيف زايد (رحمه الله) ..

القُرآن العظيم وأثره في الاستراتيجيات العبقرية للنبي صلى الله عليه وسلم – (2) .. العالم الجليل، فضيلة الشيخ عبد اللطيف زايد (رحمه الله) ..

الرسول صلى الله عليه وسلم قُدوة كاملة:

ورغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكَّد بشريته وكذلك القرآن الكريم بيَّنها وأكدها، رغم ذلك فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتمتع بصفات ويتحلى بأخلاق حتى (كأنها) بلغت حد الإعجاز البشري، فقد كان صلى الله عليه وسلم فريداً في أخلاقه بين الناس بل وحيداً في صفاته بين الأنبياء والرسل، وما عُرفت عنه الزلات والسقطات ولا ما عاب غيره من أمثاله ونُظرائه..

 

كان محمد صلى الله عليه وسلم الخلق الكامل والمثل الكامل والأدب الكامل، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، عنده اجتمعت المحامد ولديه التقت الفضائل، وعنه تُؤخذ الأعمال والمواقف، فهو القدوة في الدنيا والأسوة للناس إلى أن تقوم الساعة (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [سورة الأحزاب: 21]، فمن أي جهة من جهات حياته تجده شامخاً، وفي أي جانب من جوانب تصرفاته تجده عظيماً، وفي أي فعل أو عمل أو حركة تجده كبيراً عملاقاً..

 

فلو حاولنا أن نضع مُقارنة بينه وبين غيره من الأنبياء والمرسلين أو الزعماء والمصلحين في أي جانب من جوانب الحياة التي فاقوا فيها غيرهم تجده صلى الله عليه وسلم قد فاقهم وظهر عليهم ..

 

ولقد وصلت أخلاقه وصفاته إلى القمة، وكيف لا؟ وهي أخلاق القرآن، لقد سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عن خُلقه، فقالت: (فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ)[9]، فأخلاقه صلى الله عليه وسلم هي التفسير الحي الواقعي للقرآن الكريم ..

 

وكان صلى الله عليه وسلم قُرآناً مُطبَّقاً يمشي بين النّاس، وتجد الله عز وجلّ يصفه صلى الله عليه وسلم بالعظمة في أخلاقه، بل يصفه بأخلاق هي القمة في الأخلاق، فيقول عزّ وجلّ:  (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم: 4]، ويقول سبحانه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [سورة الأحزاب: 1238].

 

وهذه قريش على الرغم من عداوتها وحربها له لم تأخذ عليه هفوة ولم تُسجل عليه كذبة قبل النبوة ولا بعدها، ولذلك لقبته (بالأمين)، وها هو ذا الرسول صلى الله عليه وسلم يستنطق قريشاً الاعتراف بصدقه حينما أُمر بالجهر بالدعوة وقف على جبل "الصفا" ونادى قبائل قريش، فلما اجتمعوا سألهم هذا السؤال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بالوادي تُريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصدقيّ؟، قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً ..

 

كتب العلاّمة الشيخ "محمد أبو زهرة" (رحمه الله) في كتابه "خاتم النَّبيين صلى الله عليه وسلم" تحت هذا العنوان (أخلاق خارقة للعادة)، ثم قال: " لقد قال بعض الكُتَّاب مُعدِّداً الخوارق التي صاحبت الدَّعوى المحمدية؛ قال: إنّ من أعظم الخوارق التي كانت لمحمد صلى الله عليه وسلم أخلاقه، فكانت في ذاتها أمراً خارقاً للعادة بين بني الإنسان، فهي أعلى من أخلاق الملائكة .. لأن الملائكة حسُنت أخلاقهم بمُقتضى كونهم:

(لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [سورة التحريم: 6] ..

 وليس فيه روحانية عيسى عليه السلام المجرَّدة ..

بل كانت فيه الرّوحانية الإنسانية، بما في الإنسان من مطالب الجسد وتجرُّد الرُّوح، فمحمد صلى الله عليه وسلم بين النَّاس الإنسان الذي تتجلى فيه مظاهر الإنسانية الكاملة، وفي طبيعته روحانية إرادية، فكل ما فيه من أخلاق للتربية والإرادة، دخل في تكوينه، فهو ليس حصوراً، ولكنَّه عفيفٌ لم يتدلَّ إلى خنىً قط، ففضيلته كفٌ للشّر، وتجنب له، والعفَّة من حصور ليست كالعفة ممن له شهواته تُغالبه، وأهواء تُعاوده، وبمعركة بين القوَّتين تكون النصرة للعفة والغلب للفضيلة، وما يكون الوصول إليه بغلاب يكون أعلى وأنفس مما يجيء رخيصاً سهلاً ..." [10].

 

ومما تقدم يتبيَّن أنَّ سيدنا مُحمد صلى الله عليه وسلم كان قمة في كلّ صفاته وأخلاقه، وهذه ميزة امتاز بها عن سائر الخلق، ولقد تبيَّن لنا كذلك أنه كان في كل صفة قُدوة للناس ومثالاً يُحتذى، ولكني أزيد على ذلك فأقول، بأنَّ هُناك ميزة امتاز بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن سائر الخلق، بل حتى عن الأنبياء والمرسلين، وأعني بهذه الميزة أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان قُدة كاملة للنَّاس جميعاً ..

 

 فقد عاش صلى الله عليه وسلم كُلَّ الحياة التي يُمكن أن يحياها أي إنسان، لقد وُجدت القدوة عند كُلّ الأنبياء، ولكنَّها لم تكتمل إلا عند سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان يُمكنه أن يقتدي بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالأعزب يقتدي به، والمتزوج يقتدي به، ورب الأسرة والأولاد يقتدون به، والعامل يقتدي به، وصاحبُ العمل يقتدي به، والفرد العادي يقتدي به، ورئيس الدولة يقتدي به، والمرؤوس يقتدي به، والزَّعيم السياسي يقتدي به، والقائد العسكري يقتدي به، إلى غير ذلك، فهو قُدوة كاملة للنَّاس جميعاً، ويُمكن لكُلِّ إنسان يطلب القدوة الحسنة أن يجدها فيه صلى الله عليه وسلم ..

 

ونحن في هذه الدراسة نُحاول أن نُبرز جانباً من جوانب العظمة في شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الجانب المتمثل في كونه كان قائداً عسكريّاً لا يُبارى، ولعلي لا أُبارح الحق إذا قُلت إنّ هذا الجانب لا يُشاركه فيه إلاَّ النَّادر من الأنبياء والمرسلين، ولعلَّ الأمة الإسلامية في حاجة مُلحة في هذه الأيام لالتماس جانب العظمة العسكرية في حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى تقتدي به، وتبني قُوّتها العسكرية، التي تستطيع أن تحرس بها حقوقها، وتُدافع بها عن كيانها، وتُحقق لعقيدتها ولنفسها ولأوطانها العزة والمَنَعة والقوة والسيادة؛ والله الموفق والهادي إلى سواء السّبيل، وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. والحمدُ لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..

 

*  -للموضع –صلة – بمشيئة الله تعالى ..

بقلم: العالم الجليل فضيلة الشيخ عبد اللطيف زايد (رحمه الله) ..

_____________

[9] – [صحيح مسلم؛ برقم: (746)].

[10] – خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، للإمام الشيخ محمد أبو زهرة (رحمه الله): (ج/1ص 242).



مقالات ذات صلة