تفاصيل المقال
الرؤية الحضارية في القرآن الكريم .. بقلم: أ. د. عمَاد الدين خليل – أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بالجامعات العراقية ..
مُستخلص المقال:
· ابن خلدون "العمران البشري" مقابل كلمة الحضارة البشرية ..
· الأهداف الحضارية للمذاهب الوضعية تتصف بالغموض والمثالية كما هو الحال عند هيجل و بالتحديات الصارمة والمَادية عند ماركس وانجلز ..
· أعطي هيجل الدولة المبررات الفلسفية كافة لممارسة العدوانية التي تقود ولاريب إلي الدمار الحضاري والظلم البشري ..
· ماركس برَّر للطبقة العاملة أي أسلوب تعتمده لتحقيق هدفها مادامت لا تعدو أن تكون منفذة أمينة لمنطق التبدل في وسَائل الإنتاج، الأمر الذي قادها إلي المجازر الجماعية تجاه القوي المعارضة كافة ..
· إنَّ مفهوم العبادة يمنَح التجربة الحضاريَة طابعهَا الخاص – ويعطيها الدافع والمبرر - ..
في محاضرة عن ملامح الحضارة الاسلامية وعوامل نموها وازدهارها، أثار الطلبة هذا السؤال: ما هو موقف القرآن الكريم من مفهوم الحضارة ؟!
ووجدتني أخرج عن الموضوع الأول لكي أجيب بوضوح عن السؤال .. وكان الطلبة يطرحون، بين الحين والحين. المزيد من الأسئلة الذكية مُحاولين ألا يفوتهم جانب من الموضوع دون أن يتلقى شُعاعاً من ضوء ..
· إن كلمة (حضارة) و (تحضر) – قلت لهم –: لم تكن شائعة في استعمالات العربية اللُّغوية أول مرة، وطيلة القرون التي أعقبت مرحلة الفتوحات الاسلامية، ويكاد "ابن خلدون" أن يكون أول من نبَّه إليها واستخدمها في (مقدمته)، إلاَّ أنَّ اصطلاحه الأثير الذي كان يستغني به معظم الأحيان عن هذه الكلمة هو (العُمران البشري) الذي يُقابل (الحضارة البشرية) ..
ومهما يكن من أمر فان "المصطلح الحضاري"، بتعريفاته المختلفة قد فرض نفسه في القرن الأخير، بعد الاحتكاك الثقافي الشامل بين الشرق والغرب، وتقدم الأخير في حقول التفسير التاريخي والدراسات الحضارية ..
وبدلا من هذا فإننا نلتقي، عبر القرآن الكريم بصيغ ومفردات عديدة أخري تعتمد للتعبير عن المسألة الحضارية، فلقد سعي القرآن لكي يُخاطب العرب بلغتهم (الراهنة) ومن خلال مفرداتهم الشائعة .. ونستطيع أن نتلمس البدايات الأولي للمسألة بالرجوع الي حادثة (خلق آدم عليه السَّلام) باعتبارها حجر الزاوية في الوجود البشري ..
قاطعني أحد الطلبة قائلاً: ولكن أليس من حقنا أن نتساءل أنه مادامت الحضارة فعلا وإبداعاً، ومُجابهة لكتلة العالم الطبيعية، واستجابة للتحديات الدائمة، وتهيئة وإعماراً وتمهيداً وتطوراً، وما دامت الوقائع والأحداث التاريخية عموماً تجئ بأمر الله الذي لا رادَّ لأمره، وبإرادته التي تعلو علي الإرادات، فهل لنا أن نرجع بالمسألة إلي ما وراء خلق آدم .. إلي سائر العمليات التي أُريد بها تهيئة العالم لاستقبال المخلوق الجديد، وإحاطة نشاطاته المختلفة بالضمانات .. بل إلي ما قبل ذلك، إلي اليوم الذي قال فيه الله سبحانه وتعالى للسموات والأرض: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا: أَتَيْنَا طَائِعِينَ)؟ إن آدم عليه السلام، وذريته من بعده، ما داموا حلقة من حلقات الإبداع الالهي في الكون .. فهل لنا أن نصل معطياتهم الحضارية بما هو أشمل وأرحب، وبما يعطيها مساحتها الحقيقية في حركة الكون والعالم؟ ..
حيثما التقت ارادة الله بالمادة
أجبت: بكل تأكيد .. فما من ريب في أن التاريخ الحضاري في القرآن يمتد إلي ما قبل آدم .. إنَّه كل فعل تمتزج فيه ارادة الله وروحه وكلمته بالمادة فتصوغها كُتَلاً كونية، أو نُظماً طبيعية، أو خلائق تحمل بصمات الحياة الأولي من نبات أو حيوان .. أو تخلقها بشراً سوياً . ويجئ الانسان – من ثمَّ – خليفة لله، كما يؤُكد القرآن في أكثر من موضوع لإعمار الأرض التي هبط إليها وهو يحمل العُدة لهذا العمل، ويمتلك الشروط الأساسية لمجابهة العالم، وتحويله وتغييره وتطويره، سواء بما ركَّب الله في ذاته من عقل وروح وإرادة وتكييف جسدي فذ، ليس المشي علي قدمين، وتحرر اليدين، ومُطاوعة الأصابع بأقلها خطورة .. أو بما هيأ له الله في الأرض وما حولها من إمكانيات التعامل الحيوي معها، والاستمرار في أطرافها، والتحاور المبدع الخلاَّق بينها وبين الانسان الذي جعل بهذا التمهيد المزدوج لأداء مهمته الحضارية: سيداً للعالمين، وفضل علي كثير من خلق الله تفضيلا ..
تساءل الطالب: ولكن، هل يكون في مقدورنا أن نُحيط علماً بأبعاد تلك الوقائع الموغلة في أغوار الزمن؟ ..
قلت: إنَّ عملية بناء الكون وتهيئة الأرضية الصالحة للحياة علي الأرض، مادامت قد سبقت خلق آدم بأزمان لا يعلمها إلا الله، وما دامت المقاييس الآدمية تجئ – دائماً – نسبية قاصرة محدودة إزاء خلق الله، فليس لنا أن نطمع للإحاطة الكاملة والتفسير الشامل لقضية (التكوين) هذه .. وليس لنا – كذلك – أن نفترض نظريات لا جدوي من ورائها ..
إنَّ هذا فوق طاقتنا، وإن أية محاولة في سبيله لا تعدو أن تكون عبثاً (ميتافيزيقيا) يُذكرنا بما كان يفعله جُل الفلاسفة اليونانيين، والإسلاميين الذين تأثروا بهم، والذين أفنوا أعمارهم في هذا السبيل ..
وهذا لا يعني أبداً التشكك بالمحاولات العلمية (التجريبية) لدراسة الجانب الطبيعي القائم (فعلاً) من الكون، والسَّعي للكشف عن قوانين بنيانه المحكم، لأنَّ هذا هو الموقف الذي يدعو له القرآن في عشرات الآيات .. إنَّما المقصود هو الجانب الفلسفي التصوري لبدايات الخلق والبحث عن (العلة) و (المعلول) و (متناهي الأول) .. إلي آخره .. وكل ما يُبيِّنه القرآن عن امتداد عملية الخلق هذه في عصورنا التاريخية الراهنة والمقبلة، أنَّ الكون ماضِ في حركته (الداينامية) نحو الاتساع الدائم بإرادة الله (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات: 47] .. وأن هذه الهدفية علي المستوي الكوني، الكُلِّي، وهذه الحركة صوب الاتساع، لابد وأن تنعكس في التصور الإسلامي، علي حركة التاريخ البشري نفسه، ومصير الإنسان في العالم قبل أن يجئ اليوم الذي أعلن عنه القرآن مراراً، حيث تُطوي السماوات كَطَيِّ السِّجل للكتاب، وتكُف الحياة والتاريخ البشري عن (الاستمرار) تمهيداً ليوم الحساب، وتبدأ صفحة جديدة في تاريخ الخلق الإلهي الدائم: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الانبياء: 104]..
لِيَبْلُوكُم أيُّكُم أَحْسِنُ عَملاً
وتساءل طالب آخر: هل من مُؤشرات قُرآنية تربط بين الإبداع الحضاري وبين المراحل التي سبقت خلق الانسان؟
أجبت: إننا، حيثما تنقلنا في أرجاء القرآن الفسيحة لمطالعة الآيات والمقاطع الخاصة بخلق الكون، وتهيئة الظروف الصالحة للحياة علي الأرض، وتمعنَّا فيها، وجدناها ترتبط ارتباطاً عُضوياً أصيلاً بالدَّور المنتظر الذي بعث الإنسان لكي يلعبه، وبالقصد والجدوى والنظام والأعمار والغاية التي بُعث من أجلها، وهي كلها قواعد أساسية لأيّ نشاط حضاري فعال هادف مُنظم متطور علي الأرض .. وهاكم بعضاً منها:
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) [الاسراء: 12].
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [هود: 7] .
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4]
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2].
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 16 – 18].
إنَّ البشرية من خلال هذه الآيات وغيرها كثير، إزاء تجربة اختبار وابتلاء تتطلب منها أفراداً وجماعات عملاً وإبداعاً .. ولكن أيّ عمل وإبداع يتوجبان علي الإنسان في الفرصة التي ستنتهي إلي أجلها المُسَمَّى؟ إنُّه – يقيناً – ليس ارتجالاً كيفياً، ولا مواقف جُزئية مُفككة، كما أنَّه ليس فوضي لا يحدها نظام ولا يسلكها هدف .. إنّما العمل والابداع اللَّذان ينبثقان عن تخطيط مرسوم، وينطلقان من مواقف كُلّيّة شاملة، ويصدران عن نظام مُبرمج يهدف إلي غاية (داينامية) لا حدود لها أبداً .. تلك هي (عبادة الله) و (التوجه اليه) و (التلقي عنه) ..
الطريق المفتوح والأَزِقَّة المسدودة
وقال طالب ثالث: لاريب أن (عبادة الله) كهدف أعلي للجماعة المؤمنة تمنح هذه الجماعة ملمحاً حضارياً تتميز به عن سائر التجارب والممارسات الوضعية ..
قلت: بالضَّبط .. فإن عبادة الله وحده والمفهوم الإبداعي الشامل، هي الهدف الذي يتوجب علي الإنسان، فرداً وجماعةً، أن يُصَعِّدَ إليه كافة أوجه أنشطته الحضارية .. بينما ترسم المذاهب الوضعية – هي الأخرى – أهدافاً لحركتها الحضارية، تتميز بالغموض والمثالية كما هو الحال عند "هيغل"، وتتميز حيناً أخر بالتحديات الصارمة والمادية كما هو الحال عند "ماركس" و "انجلز" ..
الأمر الذي قاد "هيغل" – وهو يتحدث عن تجلي المتوحد من خلال الدولة – إلي أن يُعطيها كافة المبررات الفلسفية لممارستها العدوانية التي قد تقود ولا ريب الي الدَّمار الحضاري والظلم البشري، وقاد "ماركس" ورفيقه إلي إعلان دكتاتورية الطبقة العاملة كهدف للحركة التاريخية، وتبرير أي أسلوب تعتمده لتحقيق هدفها ما دامت لا تعدو أن تكون مُنفذة أمينة لمنطق التبدل في وسائل الانتاج، الأمر الذي قادها – ويقودها – إلي تنفيذ المجازر الجماعية تجاه كافه القوي المعارضة، والتي لا تنسجم وبداهات التحضر البشري الحر ..
ثُم ماذا بعد هذه الأهداف التي تؤُكد المذاهب الوضعية أنها آتية لاريب فيها؟، وهي في تأكيدها هذا تقع في التناقض الصريح مع (الداينامية) التي أقرتها كأساس لحركة التاريخ البشري ونمو الحضارات؟ ماذا بعد دكتاتورية الطبقة العاملة وتجلي المُتوحد؟ ..
إنَّ التجربة البشرية أوسع دائماً، وأغني وأشمل من أن تحصرها حدود طبقية تقوم علي فرض التشابه الجماعي بالقسر، ومُجابهة كل تفرد أو تميز إنساني، ولا يعدو مصيرها في نهاية الأمر أن يكون انشاء مجتمعات لا تزيد في نشاطاتها ومُعطياتها عما نشهده في عوالم النَّحل والنَّمل من نُظم هندسية صارمة دقيقة، وعمل دائب وانتاج مُتزايد .. أو أن تحصر هذه التجربة البشرية الواسعة الغنية المعقدة المتنوعة الشاملة، دولة عالمية يتجلَّى فيها "المتوحد الهيغلي" ويسوسها عرض ممتاز، مُبررة سلفاً كل ممارساته العدوانية ونزعاته الشوفينية ..
الوفاق مع النواميس
بينما ترسم المذاهب الوضعية أهدافاً كهذه تتميز بالغموض أو الطغيان أو التناقض أو الانغلاق، نجد القرآن الكريم يُعلن هدفه الواضح المتوحد المفتوح الذي يستقطب حوله كافة الفاعليات والمعطيات: عبادة الله، والتلقي عنه، والتوجه اليه .. ويطلب من القوي المؤمنة أن تتحرك علي مدار التاريخ وفق كل الأساليب الإنسانية الشريفة الممكنة، لتجمع البشرية حول هذا الهدف الكبير (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة: 193] ..
ولكي تتوحد في ممارساتها ومعطياتها وعلائقها جميعاً مع النواميس الكونية الشاملة، والنظام الالهي الملزم في مداه البعيد، الذي ما منح هذا القدر من الحرية للإنسان إلاَّ لكي يعتمدها باختياره في التساوق مع النظام، والاندماج في المجري العام لخلائق الله جميعاً، تمييزاً له – بهذه الحرية التي تنبثق عن دوره كخليفة، ومكانته كسيد للعالمين – عن سائر خلق الله .. وثمة فرق شاسع، علي كل المستويات الذاتية والاجتماعية والحضارية، في النتائج المُتَمَخِّضَة عن نشاط يبذله الإنسان وهو مُتساوق مع نواميس الكون، مُتناغم مع مسيره ومصيره، أو وهو مُنشق علي هذه النواميس مُتنافر معها بدءاً ومصيراً ..
إنَّ الإنسان والشعوب والأمم والحضارات كانت تتحرك دائما وفق إحدى اثنتين لا ثالثة لهما: فإمَّا أن تكون مواقفها وأعمالها وأهدافها مُنسجمة مع نواميس الكون وسنن الحياة، مُتوافقة معها، مما يترتب عليه انجاز حضاري أغني، وتَوَحُّد بشري أشمل، وسعادة نفسية أكثر عمقاً، ومصير في الأرض والسماء أشد توافقاً مع مُهمة الوجود البشري في الأرض .. وهذا ما سعت الأديان لتحقيقه في العالم، وما يسعي الاسلام، وسيظل، من أجل تحويل البشرية كلها إليه (حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال: 39] ..
وإمَّا أن تجئ هذه المواقف والأعمال والأهداف مُنشقة – بالقدر الذي منحت فيه اختيارها بطبيعة الحال – عن نواميس الكون وسُنن الحياة، مُرتطمة بها، الأمر الذي يترتب عليه انجاز حضاري مُتفكك، وتمزق بشري شامل، وشقاء نفسي عميق، ومصير سيء في الدنيا والآخرة يخرج عن طبيعة الدور الذي بعث الإنسان إلي العالم لأدائه ويجئ مُكافئاً لعصيانه وتمرده ورفضه آداء المهمة .. وهذا ما سعت المذاهب الوضعية، وتسعي لتحقيقه في العالم وتحويل البشرية كلها إليه ..
وهكذا نجد القرآن، في تفسيره لأدوار الشعوب والأمم والحضارات، يتخذ هذا المقياس الكوني المصيري الحاسم في تحديد مدي توافق التجربة البشرية مع النواميس والتوجه الكلي لله .. أو ارتطامها بها .. ويدعونا إلي مواقع الانسجام والتوافق نافخاً فينا روح العمل والابداع، مُستقطباً مُمارساتنا ومُعطياتنا في الهدف الواحد الشامل الذي أعلنه الله سبحانه وتعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] ..
القمة التي تليق بالإنسان
وإذ رأيت اهتماماً من الطُّلاب بمتابعة الموضوع، واصلت حديثي قائلاً:
إنَّ القرآن يُؤكد هُنا، وفي أماكن عديدة، أنَّ الله سبحانه ما خلق معشر الجنّ والانس إلاَّ ((ليعبدوه)) .. وليس مفهوم العبادة هنا، مساحة ضيِّقة لا تتجاوز دائرة ((الشعائرية)) والاتصال الروحي بالله .. إنَّه تجربة حياة كاملة يتوازن فيها الأخذ والعطاء وتغدو أشبه بالبرنامج الشامل الذي يُنظم فاعليات الجماعة البشرية في الأرض، ويمنحها معنى، ويسير بها إلي هدف واضح مرسوم .. أنَّه يمنح التجربة الحضارية طابعها الخاص ويُعطيها الدافع والمبرر، وينفخ فيها روح الإبداع والابتكار والتطور الدائم الفعال ..
كما أنَّه يتجاوز بها السفوح الدنيا للنشاط البشري إلي القمم التي تليق بمكانة الإنسان في ساحة العالم .. وبهذا تسقط – ابتداء – كافة السلبيات التي يُمكن أن تتمخَّض عن أي نشاط حضاري لا يعتمد برنامجاً شاملاً، ولا يسعي الي هدف واضح، ولا يلتزم أخلاقية الإنسان في حواره مع خالقه .. وتبرز من بين هذه السلبيات معضلتا "العبث" و "اللا جدوي" اللَّتان تُسيطران علي مساحات واسعة من الأنشطة الحضارية المعاصرة علي مستوي الواقع والفكر، في وقت تنتفيان فيه أساساً، من خلال الرُّؤية القرآنية، التي تُبيِّن لنا مراراً أنَّ خلق السماوات والأرض ما جاء عبثاً، وأن سعي الانسان في العالم ليس أمراً محكوماً باللا جدوي: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36]. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)؟؟ [المؤمنون: 115]. (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 16 – 18]. (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ) [النجم: 39 – 41] ..
إنَّ القُرآن الكريم يُعلن أنَّ وراء هذا النشاط والجهد البشري غايات أساسية يتمحور حولها، وتنشد جميعاً الي غاية الغايات، والمركز الذي تتجه إليه الخلائق جميعاً في نشاطاتها المختلفة لتحقق به وجودها وتجد مصيرها .. تلك هي عبادة الله والتلقي عنه والتوجه اليه .. كان عقرب الساعة يُشير إلي انتهاء وقت المحاضرة، فوجدتني مُضطراً للتوقف عن الحديث مُعلناً للطلبة أنَّ الاسئلة التي لا تزال تلح عليهم قد تجد فرصة الإجابة عنها في لقاء قادم ..
فالموضوع – حقاً – واسع مُتشعب .. وأحاديثه ذوات شُجون !! ..
* - يقلم: أ. د عماد الدين خليل، أستاذ التاريخ والحضارة والثقافة الإسلامية بالجامعات العراقية (حفظه الله) ..
مقالات ذات صلة
-
إغلاق قناة "دوحة القُرآن" بسبب انقطاع الدعم المالي ,, ولا حول ولا قُوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم ..
أعلن السيد يوسف الشيباني مدير قناة دوحة القرآن الفضائية عن توقف بث القناة بشكل رسمي، نظراً لانقطاع التمويل والدعم المالي…
السبت 24 ذو الحجة 1443 هـ 23-07-2022 م -
اللُّغة العربية لُغة القرآن .. فضيلة أ. د. محمد لطفي الصباغ (رحمه الله)
تُثار بين الفَيْنَةِ والفَيْنَةِ هجمة ظالمة على اللُّغة العربية لُغةِ القُرآن، وتُهاجم بشراسة، وتتعدّد مقولات المهاجمين. ولا أعلم لُغة في…
الاثنين 29 شوال 1443 هـ 30-05-2022 م -
منهجيَّة التَّدبُّر الموضوعي للدَّاعية إلى الله .. بقلم: الأستاذة: رانيه محمد علي الكينعي؛ ماجستير الدَّعوة - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام 1442هـ، وفقها الله.
إن الحمد لله، نستعينه ونستغفِرهُ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهدِهِ الله فلا مُضّل له، ومن يضلل فلا هادي…
الجمعة 26 شوال 1443 هـ 27-05-2022 م





