تفاصيل المقال
وقفات إيمانية مع آيات الصيام في القُرآن الكريم –(5)- للعلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) ..
ولكي يُبين لنا الحق سبحانه وتعالى بعض التكليفات الإلهية للبشر، فهو يأتي بهذه الآية التي يُبين بها ما يحل لنا في رمضان .. يقول الحق تبارك وتعالى:
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ...) ..
بعد أن أورد لنا الحق آداب الدعاء، ومزجها وأدخلها في الصوم، يشرح لنا سبحانه آداب التعامل بين الزوجين في أثناء الصيام، ويأتي هذا التداخل والامتزاج بين الموضوعات المختلفة في القرآن، لنفهم منه أن الدين وحدة متكاتفة تُخاطب كل الملكات الإنسانية، ولا يريد سبحانه أن تظهر أو تطغى ملكة على ملكة أبدا..
يقول الحق: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ) وساعة تسمع (أُحِلَّ لَكُمْ) فكأن ما يأتي بالتحليل كان مُحرماً من قبل .. والَّذي أحلَّه الله في هذا القول كان المحرم عينه في الصيام؛ لأن الصِّيام إمساك بالنهار عن شهوة البطن وشهوة الفرج، فكأنَّه قبل أن تنزل هذه الآية كان (الرَّفَثُ) إلى النساء في ليل الصيام حراماً، فقد كان الصيام في بدايته إمساكاً عن الطعام من قبل الفجر إلى لحظة الغروب، ولا اقتراب بين الزوجين في الليل أو النهار .. فكان (الرَّفَثُ) في ليلة الصيام مُحَرَّماً .. وكان يَحرم عليهم الطعام والشراب بعد صلاة العشاء وبعد النوم حتى يفطروا ..
وجاء رجل وقال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ذهبت فلم أجد أهلي قد أعدوا لي طعاما، فنمت، فاستيقظت يا رسول الله، فعلمت أني لا أقدر أن آكل، ولذلك فأنا أُعاني من التعب، فَأَحَلَّ الله مسألتين: المسألة الأولى هي: (الرَّفَثُ) إلى النساء في الليل، والمسألة الثانية قوله الحق: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أي كُلوا واشربوا إلى الفجر حتى ولو حصل منكم نوم، وهذه رخصة جديدة لكل المسلمين مثلها مثل الرخصة الأولى التي جاءت للمسافر أو المريض، كانت الرخصة الأُولى بخصوص مشقة الصوم على المسافر أو المريض، أما الرخصة الجديدة فهي عامَّة لكل مسلم وهي تعميق لمفهوم الحكم ..
وقد ترك الحق هذا الترخيص مُؤجلاً بعض الشيء، لكي يُدرك كل مسلم مدى التخفيف؛ لأنَّه قد سبق له أن تعرض إلى زلة المخالفة، ورفعها الله عنه، وانظر للآية القرآنية، وهي تقول: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) .. كلمة (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) هذه تُعلمنا أنَّ الإنسان لم يقو على الصوم كل الوقت عن شهوة الفرج، فعندما تركك تختان نفسك، ثم أنزل لك الترخيص، هنا تشعر بفضل الله عليك ..
إذن فبعض الرخص التي يُرخص الله لعباده في التكاليف: رخصة تأتي مع التشريع، ورخصة تخفيفية تأتي بعد أن يجيء التشريع، ليُنبه الحق أنه لو لم يفعل ذلك لتعرضتم للخيانة والحرج (عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ)، وانظر الشجاعة في أنَّ عُمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، يذهب إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويقول له: أنا يا رسول الله ذهبت كما يذهب الشاب، والذي جاع أيضاً يقول للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: إنَّه جاع، وجاء التشريع ليُناسب كل المواقف، فَنُمسك نهاراً عن شهوتي البطن والفرج، وليلاً أحل الله لنا شهوتي البطن والفرج، وهذا التخفيف إنَّما جاء بعد وقوع الاختيان، ليدلنا على رحمة الله في أنَّه قدر ظرف الإنسان، (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ) ، و(الرَّفَثُ) هو الاستمتاع بالمرأة، سواء كان مُقدِّمات أو جِمَاعاً ..
(هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)، والحق سبحانه وتعالى يُريد أن يُعطينا عملية التحام الرجل والمرأة بكلمة الله، و «اللباس» هو الذي يُوضع على الجسم للسِّتر، فكأن المرأة لباس للرجل والرجل لباس للمرأة، واللباس أول مدلولاته ستر العورة. فكأن الرجل لباس للمرأة؛ أي ستر عورتها، والمرأة تستر عورته؛ فكأنها عملية تبادلية، فهذا يحدث في الواقع، فهما يلتفان في ثوب واحد؛ ولذلك يقول: (بَاشِرُوهُنَّ) أي هات البشرة على البشرة ..
إذن فالحق سبحانه وتعالى يُريد أن يُعلمنا أنَّ المرأة لباس ساتر للرجل، والرجل لباس ساتر للمرأة، ويُريد الحق سُبحانه وتعالى أن يظل هذا اللِّباس سِتْراً بحيث لا يفضح شيئاً من الزوجين عند الآخرين .. ولذلك فالنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يُحذرنا أن يحدث بين الرجل وأهله شيء بالليل، وبعد ذلك تقول به المرأة نهاراً، أو يقول به الرجل، فهذا الشيء محكوم بقضية الستر المتبادل ..
(هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) .. ومادام (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)، فيكون من رحمة التشريع بالإنسان، وقد ضَمَّ الرَّجل والمرأة لباس واحد وبعد ذلك نطلب منهما أن يمتنعا عن التواصل ..
إذن فقول: (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) كان مسألة حتمية طبيعية؛ ولذلك قال الحق بعدها: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ)، ومعنى (تَابَ عَلَيْكُمْ) هو إخبار من الله بأنَّه تاب، وحين يُخبر الله بأنه تاب، أي شرع لهم التوبة، والتوبة كما نعرف تأتي على ثلاث مراحل: يشرع الله التوبة أولاً، ثم تتوب أنت ثانياً، ثم يقبل الله التوبة ثالثاً، (وَعَفَا عَنْكُمْ)، لأنه مادام قد جعل هذه العملية لحكمة إبراز سمو التشريع في التخفيف، فيكون القصد أن تقع هنا، وأن يكون العفو منه سبحانه ..
ويقول الحق: (فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ) فلم يشأ أن يترك المباشرة على عنانها، فقال: أنت في المباشرة لابد أن تتذكر ما كتبه الله، وما كتبه الله هو الإعفاف بهذا اللقاء والإنجاب، فالمرأة تقصد إعفاف الرجل حتى لا تمتد عينه إلى امرأة أخرى، وهو يقصد أيضاً بهذه العملية أن يَعِفَّهَا حتى لا تنظر إلى غيره، والله يريد الإعفاف في تلك المسألة لينشأ الطفل في هذا اللقاء على أرض صلبة من الطُّهر والنقاء ..
وحتى لا يتشكك الرجل في بضع منه هم أبناؤه، والحقُّ سبحانه يريد طهارة الإنسان، فكل نسل يجب أن يكون محسوباً على من استمتع، وبعد الاستمتاع، عليه أن يتحمل التبعة، فلا يصح لمسلم أن يستمتع ويتحمل سواه تبعة ذلك، فالمسلم يأخذ كل أمر بحقه ..
(فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ) أي ما كتب الله من أنَّ الزواج للإعفاف والإنجاب .. وفي ذلك طهارة لكل أفراد المجتمع؛ ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((وفي بُضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) ..
ويُتابع الحق: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أي إلى أن يتضح لكم الفجر الصادق .. وكان هُناك على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َأذانان للفجر، كان بلال يُؤذن بليل، أي ومازال الليل موجوداً، وكان ابن أم مكتوم يُؤذن في اللحظة الأولى من الفجر، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ((فإن سمعتم أذان ابن أم مكتوم فأمسكوا)) ..
لكنَّ أحد الصحابة، وهو عَدِيّ بن حاتم رضي الله عنه، قال: ((أنا جعلت بجواري خيطاً أبيض وخيطاً أسود، وأظلَّ آكل حتى أتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. فقال له: إنك لعريض القفا))، (أي قليل الفطنة)، فالمراد هُنا: بياض النهار وسواد الليل ..
________________
* - للموضوع –صلة- بمشيئة الله تعالى ..
* - بقلم: فضيلة العلاَّمة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) ..
مقالات ذات صلة
-
مُبارك عليكم العيد .. وتقبَّل اللهُ منَّا ومنكُم صالحَ الأعمال ..
مُبارك عليكم العيد .. تقبَّل الله منَّا ومنكم صالح الأعمال .. وجعله الله عيد خير وبركة وسلام وأمن وأمان لأمَّة…
السبت 10 ذو الحجة 1443 هـ 09-07-2022 م -
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (4) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. في (سُوريا) .. وما أدراكم ما (سُوريا) .. قلب بلاد الشام الجميلة…
الثلاثاء 9 شوال 1443 هـ 10-05-2022 م -
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (3) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. ونحن نرى ونُشاهد ما يحدثُ لإخواننا المسلمين في (تُركستان الشرقية) بـ(الصِّين) الشُّيوعية…
الاثنين 8 شوال 1443 هـ 09-05-2022 م





