تفاصيل المقال
وقفات إيمانية مع آيات الصيام في القُرآن الكريم –(4)- للعلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) ..
وحين يقول الحق: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ)، فالعباد الذين التزموا لله بالمنهج الإيماني لن يسألوا الله إلا بشيء لا يتنافى مع الإيمان وتكاليفه ..
والحق يقول: (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي)؛ لأن الدعاء يطلب جواباً، وما دمت تطلب إجابة الدعاء فتأدب مع ربك؛ فهو سبحانه قد دعاك إلى منهجه فاستجب له إن كنت تحب أن يستجيب الله لك (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي)، وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه وتعالى في كلمة (الداع) ولا يتركها مطلقة، فيقول: (إِذَا دَعَانِ) فكأن كلمة «دعا» تأتي ويدعو بها الإنسان، وربما اتجه بالدعوة إلى غير القادر على الإجابة، ومثال ذلك قول الحق: (إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) [سورة الأعراف: 194] ..
وقوله الحق: (إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ ..) [سورة فاطر: 14]، فكأن الدَّاعي قد يأخذ صفة يدعو بها غير مُؤهل للإجابة، والحق هنا قال: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ) أما إذا ذهب فدعا غير قادر على الوفاء، فالله ليس مسئولا عن إجابة دعوته ..
إنَّ الحق سبحانه وتعالى يُريد أن يعلمنا أن الإنسان يدعو بالخير لنفسه، وأنت لا تستطيع أن تحدد هذا الخير؛ لأنَّك قد تنظر إلى شيء على أنه الخير وهو شر، ومادمت تدعو فأنت تظن أن ذلك هو الخير، إذن فملاحظة الأصل في الدعاء هي أنك تحب الخير، ولكنك قد تخطيء الطريق إلى فهم الخير أو الوسيلة إلى الخير، أنت تحب الخير لا جدال، لذلك تكون إجابة ربك إلى دعائك هي أن يمنع إجابة دعوتك إن كانت لا تصادف الخير بالنسبة لك ..
ولذلك يجب ألا تفهم أنك حين لا تجاب دعوتك كما رجوت وطلبت أن الله لم يستجب لك فتقول: لماذا لم يستجب الله لي؟ .. لا لقد استجاب لك، ولكنه نحَّى عنك حمق الدعوة، أو ما تجهل بأنه شر لك .. فالذي تدعوه هو حكيم؛ فيقول: «أنا سأعطيك الخير، والخير الذي أعلمه، أنا فوق الخير الذي تعلمه أنت، ولذلك فمن الخير لك ألا تجاب إلى هذه الدعوة" ..
وكذلك يكون حظك من الدعاء لا يُستجاب؛ لأن ذلك قد يرهقك أنت . . والحق سبحانه وتعالى يقول: (وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً) [ سورة الإسراء: 11] .. ولذلك يقول سبحانه: (سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ) [سورة الأنبياء: 37]، والعلماء يقولون: إن الدعاء إن قصدت به الذلة والعبودية يكون جميلاً، أما الإجابة فهي إرادة الله، وأنت إن قدرت حظك من الدعاء في الإجابة عليه فأنت لا تُقدر الأمر ..
إنّ حظك من الدعاء هو العبادة والذلة لله؛ لأنك لا تدعو إلاَّ إذا اعتقدت أن أسبابك كبشر لا تقدر على هذه، ولذلك سألت من يقدر عليها، وسألت من يملك، ولذلك يقول الله في الحديث القدسي: ((من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)) ..
ولنتعلم ما علمه رسول الله لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها؛ لقد سألت رسول الله إذا صادفت ليلة القدر فقالت: إن أدركتني هذه الليلة، بماذا أدعو؟
انظروا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد عَلَّم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تدعو بمقاييس الخير الواسع فقال لها: ((قولي: اللهم إنك تحب العفو فاعف عني)) ..
ولا يوجد جمال أحسن من العفو، ولا يوجد خير أحسن من العفو، فلا أقول أعطني، أعطني؛ لأنَّ هذا قد ينطبق عليه قول الحق: (وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً) [سورة الإسراء: 11] .. فمَنْ يقول: لقد دعوت ربي فلم يستجب لي، نقول له: لا تكن قليل الفطنة فمن الخير لك أنك لا تُجاب إلى ما طلبت؛ فالله يعطيك الخير في الوقت الذي يريد . .وبعد ذلك يترك الحق لبعض قضايا الوجود في المجتمع أن تُجيبك إلى شيء، ثم يتبين لك منه الشر، لتعلم أن قبض إجابته عنك كان هو عين الخير ..
ولذلك فإن الدعاء له شروط، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعونا إلى الطيب من الرزق؛ فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه، قوله: ((ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب، يا رب، ومَطعمه حرام، ومَلبسه حرام، وغُذِي بالحرام؛ فأني يُستجاب له)) ..
إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يكشف أمامنا كيف يفسد جهاز الإنسان الذي يدعو، لذلك فعدم إجابة الدعوة إمَّا لأنَّ جهاز الدعوة جهاز فاسد، وإمَّا لأنَّك دعوت بشيء تظن أن فيه الخير لك، لكن الله يعلم أنه ليس كذلك، ولهذا يأخذ بيدك إلى مجال حكمته، ويمنع عنك الأمر الذي يحمل لك الشر.
وشيء آخر، قد يحجب عنك الإجابة، لأنَّه إن أعطاك ما تحب فقد أعطاك في خير الدنيا الفانية، وهو يُحبك فيُبقي لك الإجابة إلى خير الباقية، وهذه ارتقاءات
لا ينالها إلا الخاصة، وهناك ارتقاءات أخرى تتمثل في أنه ما دام الدعاء فيه ذلة وخضوع، فقد يطبق الله عليك ما جاء في الحديث القدسي: ((ينزل الله تعالى في السماء الدنيا فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له، أو يسألني فأعطيه؟، ثم يقول: مَنْ يقرض غير عديم ولا ظلوم)) ..
ولأن الإنسان مُرتبط بمسائل يحبها، فما دامت لم تأت فهو يقول دائماً يا رب. وهذا الدعاء يحب الله أن يسمعه من مثل هذا العبد فيقول: ((إن من عبادي من أحب دعاءهم، فأنا أبتليهم ليقولوا: يا رب)) .. إنَّ الإنسان المؤمن لا يجعل حظه من الدعاء أن يجاب، إنما حظه من الدعاء ما قاله الحق: (قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ) [سورة الفرقان: 77] ..
إن معنى الربوبية والمربوبية أن تقول دائما: «يا رب» . والحق سبحانه يضع شرطاً للاستجابة للدعاء، وهو أن يستجيب العبد لله سبحانه وتعالى فيما دعاه إليه. عندئذ سيكون العباد أهلاً للدعاء، ولذلك قال الحق في الحديث القدسي: ((مَنْ شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)) ..
ومثال ذلك: سيدنا إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، قال له جبريل: ألك حاجة؟ .. لم ينف أن له حاجة، فلا يوجد استكبار على البلوى، ولكنه قال لجبريل: ((أما إليك فلا))، صحيح أن له حاجة إنَّما ليست لجبريل؛ لأنه يعلم جيداً أن نجاته من النار المطبوعة على أن تحرق، وقد ألقي فيها، هي عملية ليست لخلق أن يتحكم فيها، ولكنَّها قدرة لا يملكها إلا من خلق النار. فقال لجبريل: ((أما إليك فلا، وعلمه بحالي يغني عن سؤالي)) .. لذلك جاء الأمر من الحق: (قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ) [سورة الأنبياء: 69] ..
ولنتعلم من الإمام علي كرم الله وجهه: حين دخل عليه إنسان يعوده وهو مريض فوجده يتأوه، فقال له: أتتأوه وأنت أبو الحسن. قال: أنا لا أشجع على الله.
إذن فقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي) تعني ضرورة الاستجابة للمنهج، (وَلْيُؤْمِنُواْ بِي) أي أن يؤمنوا به سبحانه إلها حكيما. وليس كل من يسأل يُستجاب له بسؤاله نفسه؛ لأن الألوهية تقتضي الحكمة التي تُعطي كل صاحب دعوة خيراً يناسب الداعي لا بمقاييسه هو، ولكن بمقاييس من يُجيب الدعوة ..
ويُذَيِّل الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) فما معنى (يَرْشُدُونَ) ؟ إنه يعني الوصول إلى طريق الخير وإلي طريق الصواب .. وهذه الآية جاءت بعد آية (شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ) كي تُبين لنا أن الصفائية في الصيام تجعل الصائم أهلاً للدعاء، وقد لا يكون حظك من هذا الدعاء الإجابة، وإنما يكون حظك فيه العبادة ..
________________
* - للموضوع –صلة- بمشيئة الله تعالى ..
* - بقلم: فضيلة العلاَّمة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) ..
مقالات ذات صلة
-
مُبارك عليكم العيد .. وتقبَّل اللهُ منَّا ومنكُم صالحَ الأعمال ..
مُبارك عليكم العيد .. تقبَّل الله منَّا ومنكم صالح الأعمال .. وجعله الله عيد خير وبركة وسلام وأمن وأمان لأمَّة…
السبت 10 ذو الحجة 1443 هـ 09-07-2022 م -
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (4) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. في (سُوريا) .. وما أدراكم ما (سُوريا) .. قلب بلاد الشام الجميلة…
الثلاثاء 9 شوال 1443 هـ 10-05-2022 م -
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! – (3) - بقلم الدكتور احميدة سالم القطعاني ..
عيدٌ .. بأيِّ حالٍ عُدْتَ يا عيدُ؟! .. ونحن نرى ونُشاهد ما يحدثُ لإخواننا المسلمين في (تُركستان الشرقية) بـ(الصِّين) الشُّيوعية…
الاثنين 8 شوال 1443 هـ 09-05-2022 م





